جمعتني الأقدار هذه الأيام بزميل وأخ لم أجالسه منذ أواسط التسعينات خلال الفترة الطلابية عندما كنا نتقاسم كؤوس الشاي وبعض كسرات "الخبز البايت"، أو تتناطح أيدينا وسط "طبسيل" من "اللوبيا" أو "العدس" أو "المرقة الحرفية"، أو نرافق بعضنا إلى السوق الأسبوعي في آخر النهار لشراء قليل من الخضر الأربع (البصلة ماطيشا بطاطا خيزو) أو "المبادئ الأربعة" كما كنا نسميها قياسا على المبادئ الأربعة لنقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أما "الديسير" الذي كنا نطلق عليه "الأعراف"، فلم نكن نتذوقه إلا من المنحة إلى المنحة، أو عندما يمنّ الله على أحدنا بزيارة من أقاربه ويُحضرون معهم قفّة مملوءة تكفينا عناء التفاوض على أثمان المبادئ الأربعة في السوق. لم تكن ظروف اللقاء هذا تسمح لنا بالرجوع بالذاكرة كثيرا إلى الوراء والنبش في بقايا سنوات "يا أخي يا طالب يدك في يدي"، فقد كان لقاء عابرا لخص فيه كل منا في كلمات مساره في عشر سنوات التي لم نجالس فيها بعضنا البعض، وعلمت عن زميلي أنه زار بلاد الطاليان وأقام فيها ما شاء الله أن يقيم وعمل فيها "داك الشي لي قسم الله"، ثم عاد إلى بلده حيث أصبح يدير مشروعا يأكل منه "طريف ديال الخبز". وفي هذه السنة منّ الله عليه ووفقه إلى زيارة الديار المقدسة وأداء مناسك الحج رفقة بعض أفراد عائلته (لهلا يحرم شي مسلم)، لكنه تعرض لحادث كدر عليه حجه، وربما سيظل يذكره حتى يلقى الله كما صرح هو نفسه بذلك. و"باش ما تمشيوش غالطين"، زميلي لم يصب لا هو ولا أي من أفراد عائلته في حادث انهيار فندق مكة، ولا خلال التدافع الذي شهدته الديار المقدسة أثناء رمي الجمرات، بل حتى ذلك التدافع و"التراكش" المعروف علينا معشر المغاربة أينما وُجد عشرة منا حتى الحجاج ، تفاداه وحرص على أن يكون دائما هو الأخير في كل شيء، وينتظر دائما حتى تخف "الجّوقة". المشكل الذي فاجأ صاحبي ولم "يسرطه" إلى حدود اليوم، هو أنه بعدما كان في مكة يطوف بالكعبة المشرفة ويرفع صوته بالتلبية "لبيك اللهم لبيك"، أصبح في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء يوم 21 يناير الماضي يطوف بين مكاتب الجمارك ويصيح بأعلى صوته "اللهم إن هذا منكر"، وبعدما بكى بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم راجيا رحمة الله ومغفرته، بكى قلبه كمدا وأسى على ما وصل إليه بعض القائمين على أمور بلده من دناءة وانحطاط، فقد أقسم بالله أنه رأى رجالا من مصلحة الجمارك و"الضّريب غير المباشر" يتسلمون الرشوة من الحجاج مقابل عدم تفتيش أمتعتهم، وسرعان ما انكشف زيف تلك الابتسامة والترحاب الذي لقيه زوار بيت الله في باب الوصول. وصلت "السّويفة" صاحبنا فخاطبه رجل الجمارك "واش تطحن هنا ولا نعطي الباسبور للشّاف"، (دابا واش هادي ديوانة ولاّ طاحونة أعباد الله؟)، وبما أن صديقي الحاج مبدئي حتى النخاع، فقد أجابه: "غير دوّزني للشاف ما عندي ما نطحن معاك"، وأمام أنظار الشّاف شُتت أمعاء "بالِزتَي" حاجنا، وعزل موظفو الجمارك شراويطه المتسخة عن بعض الهدايا البسيطة التي أحضرها للعائلة على سبيل "الباروك"، وبسرعة فائقة كتب الشّاف "بُونا" وسلمه للحاج قائلا: "عندك واحد وعشرين ألف ريال ديال السلعة غادي تخلص عليها 16 ألف ريال ديال الضرائب"، وعلى "البون" كتب أن الرجل بحوزته 11 "كنضورة" للرجال قيمة كل واحدة منها 110 دراهم، وهو طبعا عدد ليس صحيحا ومنفوخ فيه وحتى الثمن مبالغ فيه يؤكد المتضرر وهنا انطلق الحاج الشاب يستنكر وهو يصرخ: "اللهم إن هذا منكر، اللهم إن هذا منكر"، وترك للشّاف ورجاله تلك "الشراويط" مخاطبا إياهم: "ما نسمح ليكم لا في الدنيا ولا في الآخرة"، وبعدما ذهب إليهم أبوه الذي كان برفقته في الحج لاسترداد الأمتعة وأداء الضريبة "على سعده ووعده"، مضى "الشّاف" يعلق تصرفه هو ورجاله على مشجب غريب، حيث حذروا الوالد من أن ولده يريد أن يثير الفوضى وأن اللحية التي يحملها على ذقنه "غاديا تخرج عليه"، ناسين أن هذه الرشوة التي يدخلونها إلى جيوبهم هي التي "ستخرج عليهم وسيخرجون بها علينا نحن أيضا في هذه السفينة التي تجمعنا معهم". ألا يعلم مثل هؤلاء أنه "على مسْبّتهم" وبسبب تصرفاتهم هذه يحتل بلدنا مرتبة مخجلة في سلم محاربة الرشوة، حيث انتقلنا من الرتبة 45 سنة 1999 والرتبة 37 سنة 2000 والرتبة 52 سنة 2002 والرتبة 70 سنة 2003 والرتبة 77 سنة 2004 إلى الرتبة 78 سنة 2005؟ ألا يدرك هؤلاء أن أمثالهم هم الذين "نزّلوا الذل" على العرب حتى قدر خبراء أمميون، خلال ندوة عالمية نظمت بدبي السنة الماضية، أن العرب الذين يمثلون 6 بالمائة من مجموع السكان في العالم مسؤولون عن حوالي 30 بالمائة من كلفة الرشوة في العالم، والمقدرة ب300 مليار دولار؟ وعلى الأقل "إلى ما حشمتو وما خفتو من حد، خافو من لّي خلقكم ووقّروا الحجاج واحترموا مقام سيد النبي صلى الله عليه وسلم".