إن الحديث عن وثيقة المطالبة بالاستقلال، يتطلب وضعها في إطارها التاريخي من تاريخ المغرب المعاصر، المغرب الذي عاش لمدة حوالي ثلاثة عشر قرنا حرا مستقلا، ومثل بذلك الاستثناء بالنسبة لغالبية البلاد العربية الأخرى، إلى أن اغتصب استقلاله بداية القرن العشرين، وحتى ذلك الحين بقي حصنا منيعا استعصى على الدول العظمى، إلى أن اتحدت ضده مجتمعة ( في إطار مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906) وآنذاك تم اقتسام أرضه بين سلطات استعمارية مستبدة، تحت ذرائع ملتوية، بإرغامه قسرا على توقيع معاهدة الحماية، بتاريخ 30 مارس 1912 ، وتم تقسيمه بين اسبانيا في الشمال والجنوب، وفرنسا في الوسط، بالإضافة إلى منطقة دولية في طنجة. فقد بدأ الاحتلال سنة 1907 بغزو القوات الفرنسية لمدينة الدار البيضاء، بالتزامن مع احتلال مدينة وجدة، ثم باقي أجزاء جهة الشاوية سنة 1908، نظرا لأهميتها الاقتصادية والاستراتيجية . فرضت سلطات الحماية نظام الإقامة العامة على المغرب، وهو نظام عسكري وإداري مباشر، يخدم مصالح المستعمر الفرنسي واحتكاره للمناصب والوظائف السياسية والإدارية الهامة، وتهميش أصحاب الأرض وحصرهم في خانة الأهالي. فقد حاول النظام الاستعماري تحطيم الوحدة المغربية وفك الروابط بين مكونات الشعب، ومنعهم من المشاركة في حكومة بلدهم وحرمانهم من الحريات الشخصية و العامة، مع أن المغاربة شاركوا إلى جانب الحلفاء في الحربين العالميتين، وقدموا انجازات هامة في الميدان. وفي الجانب الاقتصادي هيمنت الرأسمالية الفرنسية على كل جوانب الحياة في هذا المجال، واحتكرت لصالحها التجارة الداخلية والخارجية، واستحوذ المعمرون على الأراضي الفلاحية الخصبة. فقد انتقلت ملكية الأراضي التي أبدى أصحابها بطرق غير مشروعة، حيث أن من بين خمسة ملايين من الهكتارات المستغلة، فإن ما يزيد على مليون منها، وهي أخصب الأراضي، انتقلت إلى أيدي الأوربيين عن طريق نزع الملكية، ولذلك فإن الفلاحين المغاربة، البالغ عددهم أكثر من مليون، ليس لهم سوى مساحة دون الأربعة ملايين من الهكتارات لاستغلالها. فقد ترتب على ذلك أن أصبح معدل مساحة قطعة الأرض التي يملكها المغاربة لا تتعدى ثلاث هكتارات. ومن مساوئ هذا التقسيم للأرض أنه يؤدي إلى الفقر والوقوع تحت طائلة الديْن وتشجيع نزع الملكية من قبل الأوربيين الذين أصبحوا يتمتعون بثراء نتيجة سوء التوزيع، إذ أن معدل الملكية الأوربية يصل إلى 300 هكتار. وانتاج الهكتار أكثر بكثير مما هو عليه لدى الفلاح المغربي، وذلك ناتج عن السيولة التي توفرها سلطات الحماية للمعمر الأوربي والقروض بدون فائدة، والتي قد يصل مداها إلى 99 سنة، بينما الفلاح المغربي لا يستفيد إلا من القليل وبفائدة، أضف إلى ذلك أن الفلاحين الذين نزعت ملكية أراضيهم أصبحوا عمالا في ضيعات الأوربيين مقابل أجر زهيد. إن كان الاستعمار استولى على خيرات البلد المادية، فإن الجانب اللامادي أو المعنوي، المتمثل في الحفاظ على الوحدة والتلاحم والانسجام الذي تحلى به الشعب المغربي بقيادة عاهله السلطان سيدي محمد بن يوسف، ونضج الوعي الوطني لدى النخبة المغربية، وهي عوامل لم تكن في حسبان السلطات الاستعمارية، ولعبت دورا أساسيا في نشر الوعي للمطالبة بالحقوق دون الاخلال بالواجبات داخليا والتعريف بها على الصعيد الدولي، احقاقا للحق وازهاقاً للباطل. فبعد أن كان المقيم العام المارشال ليوطي، يحول دون ولادة الروح الوطنية المغربية، ويوقف نموها بما في ذلك مقابلتها بالمواجهة الصريحة، فإن خلفائه من المقيمين العامين، قللوا من شأنها، ثم حاولوا القضاء عليها بالقوة قمعا وتعنيفا. ومن ذلك ما سمي بالإصلاح، الذي كان يبدو إداريا، لكنه في العمق سياسيا، ألا وهو إقرارهم للظهير البربري الصادر في 16 مايو 1930، والهدف منه التفريق بين مكونات الشعب المغربي بفرض جهاز قانوني قبَلي معقد، وذلك على عهد المقيم العام : لوسيان سان Lucien Saint القادم من تونس. هذا الظهير الذي اعتبرته النخبة الوطنية آنذاك بكونه يحمل بين طياته إساءة إلى المقدسات الدينية، وقد تزامن مع ظهور حركة تبشيرية كاثوليكية في بعض المناطق من المغرب والتي يسكنها الأمازيغ. مما جعل النخبة الوطنية تقف ضده وتطالب بإلغائه، وقد استعملت في ذلك مقاومة سلمية عن طريق التظاهر وقراءة اللطيف في المساجد. وقد ترددت أصداء هذا الظهير المشئوم خارج حدود المغرب، فأصبح قضية مغربية تعاطف معها العالم الإسلامي من تونس إلى القاهرة فبغداد. ووجه خلالها الكاتب اللبناني، الأمير شكيب أرسلان، نداء إلى المسلمين يدعوهم لمساندة إخوانهم المغاربة حفاظا لعقيدتهم وصونا لهويتهم. ووجدت حينها الشرطة الفرنسية صعوبة في قمع المظاهرات الهائجة، فنتج عن رد الفعل ضد الظهير البربري، أن تولد وعي وطني وانبعث الحماس في الناس، وخاصة فئة الشباب المتعلم القاطنين في الحواضر. ومن هنا بدأت بوادر الحركة الوطنية تلتئم وتتقوى (ظهور بعض الزعماء الشباب منهم أحمد بلفريج – علال الفاسي وغيرهم ). فبدل أن تلجأ الإدارة الفرنسية إلى استعمال العقل والترزن، ركبت رأسها في عناد، ورفضت البحث في امكانية الوصول إلى تفاهم مع الوطنيين. وتقدم الوطنيون بعد الغاء الظهير البربري، ما بين 1934 و 1936 بجملة من المقترحات الإصلاحية إلى الحكومة الفرنسية، تحتوي على مخطط مفصل يشمل كل ناحية من النواحي الوطنية. ونبهوا فرنسا إلى أن دور سلطات الحماية ينبغي أن يقتصر على ما نصت عليه معاهدة الحماية، أي دور النصح والإرشاد. وفي فاتح دجنبر 1936 قدم أعضاء كتلة العمل الوطني وثيقة مطالب الشعب المغربي الإصلاحية والمستعجلة. ثم جاءت أحداث بوفكران، حيث حرم سكان منطقة مكناس من مياه الوادي التي وجهت لسقي ضيعات المعمرين، بداية شهر شتنبر 1937. آنذاك قامت المظاهرات التي وُوجهت بعنف من سلطات الحماية . وبعد هذه الأحداث تأسست أحزاب جديدة، منها حزب الشورى والاستقلال وحزب الوحدة المغربية، وحزب الإصلاح والحزب الشيوعي، ثم حزب الاستقلال فيما بعد. وظهرت العديد من الصحف، وخاصة تلك التي يديرها وطنيون معتدلين. وَوُجهت وثيقة إلى السلطات الاستعمارية للمطالبة بالعديد من الإصلاحات كما تسببت هذه الأحداث في العديد من الاعتقالات ونُفِي بعض أعضاء الحركة الوطنية، إلى مناطق في المغرب أو إلى الخارج، ومنهم الزعيم الوطني وأحد مؤسسي حزب الاستقلال علال الفاسي، الذي نفي إلى إحدى المستعمرات الفرنسية في افريقيا آنذاك وهي الغابون، ثم الكونغو وبقي هناك لمدة تزيد على تسع سنوات. ونظرا لارتباط المغرب باتفاقية الحماية، فقد شارك المغاربة في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، بين مجندين ومتطوعين في مختلف المهام في إطار عصبة الأمم، وساعدوا فرنسا على تحرير نفسها من الاحتلال النازي، فقد بلغ عددهم حوالي 300 000 رجل، بينهم أكثر من عشرين ألفا شاركوا في القتال. خلال شهر يناير 1943 انعقد بالدار البيضاء، مؤتمر أنفا، الذي شارك فيه كبار قادة دول الحلفاء، حيث جمع كل من الرئيس الأمريكي : فرانكلان روزفيلت، ( للتذكير فقد تم قدوم " المراقبين " الأمريكيين إلى المغرب سنة 1941، وفي 8 نونبر من نفس السنة، تم انزال قوات الحلفاء، وأغلبهم من الأمريكيين بالسواحل الأطلسية، وخاصة الدار البيضاء والقنيطرة )، ورئيس الوزراء البريطاني : وينستون تشرشل، وعن فرنسا الجنرالان شارل دوغول وهنري جيرو، يمثلان القوات الفرنسية الحرة، بينما اعتذر رئيس الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين، ومشاركة جلالة السلطان محمد بن يوسف رفقة ولي العهد آنذاك الأمير مولاي الحسن الذي وصفه هاري هوبكنز وونستون تشرشل والجنرال نوغيس، بأنه " ولد ذكي في نحو الثالثة عشر من عمره "، هذه المشاركة أريد لها أن تكون رمزية فقط، إلا أن تدخلات الملك، ومحادثاته المطولة مع الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني، مطالبا بحقوق المغرب، كان لها صدى قويا في المؤتمر، وأبهرت المؤتمرين، حيث تحدث معهما ندا للند وبدون رقابة فرنسية. خلالها ظهر بريق من الأمل بتوعد الرئيس الأمريكي على مساندة المغرب في الحصول على الاستقلال مباشرة بعد انتهاء الحرب. ومن الملاحظات التي أبداها الرئيس الأمريكي، أن المغرب يجب ألا يسمح للأجانب أن يمتصوا ثرواته، وأنه يجب أن يطور امكانياته الاقتصادية لمنفعته الخاصة، وأن حكومة ذات سيادة يجب أن يكون لها اشراف كبير على الثروة في البلاد. وقد كتب اليوت روزفلت ابن الرئيس الأمريكي والذي كان مرافقا لأبيه، عند تدوينه لتصريحات والده، " إن الحلفاء يجدر بهم أن يفرضوا رقابة عسكرية على المستعمرات الفرنسية هنا في شمال افريقيا ". ويضيف " لماذا يكون المغرب، وسكانه من المغاربة ملْكا لفرنسا ؟ " وجاء في رسالة من الرئيس الأمريكي إلى سلطان المغرب، توحي بشعور من الاطمئنان حيث وعده بأن يعمل بنفسه عند انتهاء الحرب على التعجيل باستقلال المغرب. وربما لو كان الرئيس عاش مدة أطول لكان ممكننا أن يكون عند وعده على ما يرى المراقبون الفرنسيون ( توفي روزفلت يوم 12 أبريل 1945 ). إلا أن السلطات الفرنسية كان لها رأي آخر في تمسكها باستعمار المغرب، وشد الخناق عن الحركة الوطنية، وخاصة بعد تعيين مقيم عام جديد، وهو الجنرال جبريل بيو Gabriel Puaux والمعروف بقمعه للحركات الاستقلالية في سوريا ولبنان، فهو الذي كان مسئولا عن حل البرلمان السوري وتعليق الدستور، وحل البرلمان اللبناني وصرف الحكومة اللبنانية. وهو من الموالين لحكومة المارشال بيتان، التي كانت تتعاون مع ألمانيا النازية. كان ذلك في إطار مخطط للقضاء على الحركة الوطنية المغربية، التي ستزداد قوة وتماسكا والتحاما بتوافق وانسجام مع الجالس على العرش. آنذاك بدأ الوطنيون بقيادة أحمد بلفريج ومحمد اليزيدي، يعدون خطط ما بعد الحرب، صحبة طائفة من الزعماء القدامى، وانظم إليهم عناصر من الشباب، أغلبهم متعلمون في المدارس العصرية. في دجنبر 1943 أعلن ائتلاف حزب الاستقلال في اجتماع عقده قدامى الوطنيين والتجار والمدرسون وكبار موظفي الدولة وخريجو جامعة القرويين المنتمين منهم إلى جمعيات الخرجين في فاسوالرباطوسلاومراكش وأزرو ووجدة وأسفي ومكناس، واتخذ قرار المطالبة بالاستقلال التام في عريضة قدمت إلى الملك والمقيم العام وجميع الحلفاء عن طريق قناصلها. ولقد شجع الوطنيين على مطلبهم الجريء للاستقلال الكامل تلك الضمانات التي خلقتها ظروف الحرب، وإعلان مؤتمر أنفا، مثلما فعله آخرون في بلدان أخرى كانت مستعمرة خلال تلك الفترة. وكانوا على اتصال دائم بالملك، والذي كان قد قرأ العريضة قبل إعلانها، بحيث كان يقف موقف العطف والتأييد التامين. الوثيقة كتبت بخط عبد الوهاب الفاسي في منزل مكوار بمدينة فاس، ساحة البطحاء، وقدمت نسخ منها يوم الثلاثاء 14 محرم 1363 الموافق ل 11 يناير 1944، لجلالة السلطان، والإقامة العامة، وقنصليات الدول الكبرى بالمغرب، وقنصل الاتحاد السوفياتي بالجزائر. تأرجح عدد الموقعين من خلال نسخ الوثيقة مابين 58 و66 ، إلا أنه بحسب الأستاذ عبد الكريم غلاب، بأن المهم هو محتوى الوثيقة، وكانت تشكيلة لوائح الموقعين تضم مختلف فعاليات المجتمع. وفي حوار مع محمد العيساوي المسطاسي، أجرته معه مجلة زمان، في عددها الصادر شهر يناير 2016، وهو الوحيد من بين الموقعين على الوثيقة والذي ما يزال على قيد الحياة، لما سُئِل عن عدد الوقعين، حيث يقول : " لما قدم السلطان وثيقة المطالبة بالاستقلال إلى مستشار الإقامة العامة، رد عليه الأخير متهكما، أن الوثيقة وقعها 66 شخصا فقط، وهؤلاء لا يمثلون المغرب. " مثل الموقعون مدنهم بحسب الأعداد التالية : فاس 28، الرباط 11، سلا 6، مكناس 5، مراكش 4، أسفي 3، الخميسات 2، وموقع واحد عن كل من القنيطرةووجدة وسطات وسيدي قاسم وابن أحمد وتيفلت وشخص كان يقيم بمدينة مانشستر الانجليزية وهي كلها تقع في الجزء الذي تحتله فرنسا باعتبارها موجهة للإقامة العامة الفرنسية. وكان نصيب ثلاث مدن تقليدية بحصة حوالي %63 من مجموع التوقيعات، منها %36 خاصة بفاس. وكان من بينهم امرأة واحدة وهي السيدة مليكة الفاسي، ممثلة لنساء المغرب. فخلال فترة اعدادها وقبل صياغتها النهائية، قامت الحركة الوطنية بجمع التوقيعات من مختلف المدن التي بها تنظيم حزب الاستقلال لتوسيع قاعدة الانضمام إلى الحركة الوطنية، وتوعية فئات عريضة من الشعب المغربي بالمطالبة بالاستقلال، رغم تحرك السلطات الفرنسية للوقوف حائلا دون هذا التواصل، ما بين قيادة الحركة وقواعدها، وشملت الاعتقالات العديد من الوطنيين حتى قبل التوقيع النهائي. وبالموازاة مع هذه العملية، توصل القضاة والنظراء والوجهاء، عبر التراب الوطني برسائل ملكية تحث الجميع على الالتفاف حول مشروع المطالبة بالاستقلال ، وتقديم كل مظاهر الدعم والتأييد، وبعث الرسُل و الرسائل إلى القبائل والمدن والقرى المجاورة لهم، للتجاوب مع هذه المبادرة التاريخية والمصيرية. المطالب الأصلية التي احتوتها الفقرات الأربع للوثيقة : 1- المطالبة بالاستقلال التام الناجز وتوحيد المناطق الأربع. 2- المطالبة بضمان هذا الاستقلال من قبل جميع الدول المعنية بالأمر. 3- المطالبة بقبول المغرب على أنه دولة موقعة على الميثاق الأطلسي. 4- وجوب وضع دستور ديمقراطي حالا. كان رد فعل المقيم العام على الوثيقة استفزازيا. أما الحركة الوطنية فقد اكتسبت شعبية واسعة، حيث تجمعت الجماهير خارج القصر الملكي، وعقدت اجتماعات في مختلف المدن، أمثال أسفي ومراكش، ووجدة، وقد تجنبت الجماهير اللجوء إلى استعمال العنف، حتى قرر المقيم العام القاء القبض على أحمد بلفريج ومحمد اليزيدي، وستة عشر آخرين من الزعماء الوطنيين، يوم 19 يناير، ولفقوا لهم تهمة التعاون مع الألمان، بقصد الإساءة إليهم. ولما تسرب خبر اعتقال الزعماء، قامت مظاهرات بالآلاف يوم 29 يناير، والتجأت إلى العنف، كرد فعل لتصرفات السلطات الاستعمارية، وكانت أغلبها في منطقة القصر ودار المقيم العام، وفي سلا. فأرسلت تعزيزات من القوات الفرنسية وأطلقت الرصاص على المتظاهرين، وقتل عدد كبير منهم. وفي فاس بدأت المظاهرات سلمية، إلا أن حوادث الاعتقالات أدت إلى نشوب معارك عنيفة في الأحياء الإسلامية من المدينة التي يسكنها المغاربة، حيث قتل على الأقل ثلاثون مغربيا على أيدي الجنود السنغاليين، وزُج ببعض الآلاف في المعتقلات، كما قامت السلطات الفرنسية بمحاصرة هذه الأحياء، واتخذت عقابا من نوع آخر على مجموع سكانها، وذلك بأن قطعت عنهم الغذاء والماء والكهرباء مدة أسبوع. أما في مراكش فإن الباشا الكلاوي سهر بقواته على قمع المظاهرات ومنعها. كما أن القوات الفرنسية منعت الإضراب العام الذي شنته الشغيلة في الدار البيضاء. وقام المقيم العام بحركات انتقامية ذات دلالة واضحة على قوة الحركة الوطنية، إذ قام بعزل وزير العدل، محمد بن العربي العلوي ( الملقب بشيخ الإسلام ) لتعاطفه مع الحركة الوطنية، وكذلك فصل وزير التعليم ونائب الصدر الأعظم، وأغلق المدرسة الحرة في الرباط التي كان يشرف عليها بلفريج، وأغلقت جامعة القرويين في فاس وكوليج أزرو ( ثانوية طارق بن زياد حاليا ). ورغم أن الحركة الوطنية قد قمعت مؤقتا، فإنها استطاعت أن تجمع حولها عشرات الآلاف من المؤيدين الذين بدأ ينمو لديهم الشعور الوطني للمطالبة بالحرية والاستقلال في مواجهة السلطات الاستعمارية. وتعززت التنظيمات الحزبية عبر مختلف الحواضر المغربية. إلا أن رد فعل الجنرال ديغول كان أكثر غطرسة وتعنتا، حيث صرح بأن المغرب " مرتبط مع فرنسا بعروة وثقى لا انفصال لها " وأن الاصلاحات السياسية " لا يمكن أن يبحث فيها لأن وضع المغرب قد حدد بصورة نهائية في معاهدة الحماية. " وفي مارس 1945 تم تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال بالتمثل لدى عصبة الأمم. آنذاك بدأ حزب الاستقلال يسعى إلى تدويل المشاكل المغربية. وقدمت مذكرة أخرى أثناء انعقاد اجتماع الموقعين على معاهدة الجزيرة الخضراء، الذين اجتمعوا في تلك السنة للنظر في إعادة إقرار دستور طنجة. أما الاصلاحات التي قدمها المقيم العام، فقد رفضها حزب الاستقلال ، الذي أعلن أنه لن يقبل الاصلاحات دونما الاعتراف بأن المغرب دولة مستقلة . إن حدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال يشكل محطة بارزة في مسار الكفاح الوطني، وهي تحمل في طياتها رمزية تاريخية خالدة في سجل الكفاح الوطني المغربي من أجل الحرية والاستقلال وتحقيق الوحدة الترابية والسيادة الوطنية، وذلك من خلال التحام العرش بالشعب، دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية والمقومات التاريخية والحضارية للمملكة المغربية، وبروز الشعور الوطني لدى المغاربة. وأكدت المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير، أن إحياء هذه الذكرى يتوخى التعريف بمضامين الملاحم الوطنية وأقطابها الخالدين وأمجاد الأمة المغربية وبتاريخها النضالي المجيد، وتلقين صفحاته وفصوله ودروسه وعبره إلى الناشئة والشباب والأجيال الجديدة حفاظا على الذاكرة. كما تعتبر ثورة وطنية، ونقلة نوعية في النضال الوطني، نظرا للسياق التاريخي والظرفية التي صدرت فيها، حيث أذكت الوعي بالمسؤولية الوطنية لدى فئات عريضة من الشعب المغربي، وأعطت الدليل على نضجهم وجرأتهم على الدفاع عن حقوقهم المشروعة في المطالبة بتقرير مصيرهم من أجل إدارة شؤونهم بأنفسهم، دون خضوع للنفوذ الأجنبي، وأصروا على الاستمرار في النضال بفضل التنسيق والتلاحم بين العرش والشعب. وتلت تقديم الوثيقة، محطات أخري، منها زيارة جلالة المغفور له محمد الخامس، مدينة طنجة الدولية في 9 أبريل 1947، على متن القطار، مرورا بالمنطقة الخاضعة للحماية الاسبانية وذلك تأكيدا لوحدة الأراضي المغربية، وصولا إلى تلك الخاضعة للانتداب الدولي، والقى خطابه الشهير، وسط حشود من سكان طنجة والضواحي، محتجا على الوضع الاستعماري بلهجة دبلوماسية، و تناقلته الإذاعات عبر العالم، أبرز فيه مقومات الشعب المغربي وطموحاته في المطالبة بالاستقلال، لتبدأ بذلك مرحلة أخرى، اتسمت بالشد بين القصر والإقامة العامة.
المصادر : - أحمد بوكاري الشرقاوي : الحركة الوطنية - وثائق حزب الاستقلال 1944 – 1946 - دوجلاس اي. اشفورد : التطورات السياسية في المملكة المغربية - روم لاندو : تاريخ المغرب في القرن العشرين - مجلة زمان، يناير 2016