في مثل هذا اليوم منذ سبعين سنة قدم الوطنيون إلى السلطان سيدي محمد بن يوسف عريض الاستقلال. ولم تكن وثيقة 11 يناير 1944 هي أول مسعى تقدم به الوطنيون في سياق النضال من أجل الحرية واسترجاع السيادة الوطنية، بل إن الوطنيين رفعوا قبل ذلك العديد من العرائض والمذكرات كان هدفها هو الخروج تدريجيا من مرحلة الحجر والحماية. لكن عريض الاستقلال اختلفت عن غيرها من الوثائق لأن الوطنيين أرادوا لها أن تتحول إلى حدث وطني كمحطة سياسية، أصبح فيها النضال قضية تهم كل الشعب المغربي. وقبل ذلك كان الكفاح محصورا في نخبة سياسية ولهذا ففي 11 يناير أصبح العمل الوطني قضية تهم كل الشعب المغربي، ومختلف فئاته الاجتماعية. هكذا أعد الوطنيون الأجواء المناسبة لتكون المطالبة بالاستقلال عملا تكون له مكانته في التاريخ. وفي يناير 1944 ظهر في الواجهة النضالية جيل جديد من القادة الوطنيين المستعدين للتنظيم الجماهير وجعلها قوة مدعمة للمبادرات السياسية الكبرى في الاتجاه الذي يجعل الشعب يشعر بالحاجة إلى الاتحاد والتماسك والمواجهة مع المستعمر لاسترجاع السيادة الوطنية وحرية القرار. في غياب الزعيم علال الفاسي الذي أبعده الفرنسيون إلى الغابون منذ نهاية 1937 تولى أحمد بلافريج قيادة معركة المطالبة بالاستقلال في يناير 1944 صحبة رفيقه الزعيم محمد اليزيدي. وعندما شعرت السلطات الاستعمارية بالآثار القوية التي كانت للعريضة في نفوس الجماهير أقدمت هذه السلطات على اعتقال الزعيمين بلافريج واليزيدي بأمر من المقيم العام، غابرييل بييو. وتزامن تقديم العريضة مع تأسيس حزب جديد سيعرف بحزب الاستقلال وتم تعيين الحاج أحمد بلافريج أمينا عاما مؤسسا للحزب فيما تولى اليزيدي منصب الأمين العام المساعد. كان اعتقالهما كرد فعل من الحكومة الفرنسية على تقديم العريضة لأنها خلقت في المغرب أجواء سياسية لم تكن تنتظرها السلطات الاستعمارية وشعر الفرنسيون بأنهم قد فقدوا زمام المبادرة السياسية والسيطرة على الرأي العام المغربي حيث أصبحت عبارة الاستقلال تتردد في كل الاجتماعات الوطنية والجهوية. وطوال الفترة الممتدة مابين تقديم العريضةفي 11 يناير واعتقال الزعيمين في 29 يناير تقاطرت وفود شعبية من مختلف أنحاء المغرب على مدينة الرباط بهدف تقديم عرائض مساندة لوثيقة الاستقلال إلى القصر الملكي بالرباط. ولاستقبال هذه الوفود عرف الشهيد المهدي بنبركة كيف يعبأ العديد من الوطنيين سكان مدينة الرباط ومدينة سلا ليفتحوا منازلهم لاستضافة هذه الوفود وإيوائها وإطعامها. وسادت العاصمة أجواء الفرح نظرا للاستجابة الشعبية التي تحققت كرد فعل وطني لتقديم عريضة الاستقلال ولكن بعد اعتقال بلافريج واليزيدي أصبح المغاربة في حالة هيجان وانفجر غضبهم في مظاهرة شعبية في كل من فاسوالرباطوسلا وهي مظاهرات تصدت لها قوات الاحتلال الفرنسي بوحشية كبيرة . ولقد قاد مظاهرات الرباط الشهيد المهدي بنبركة وكان عمره 24 سنة، بينما قاد عبد الرحيم بوعبيد مظاهرة مدينة سلا وكان عمره 22 سنة، وسيتم اعتقالهما وإداعهما في سجن لعلو مع غيرهما من القادة الوطنيين المنحدرين من الجيل الأول والجيل الثاني للحركة الوطنية. ولقد عمت الاعتقالات العديد من المواطنين ممن تعرفوا لأول مرة على أجواء الكفاح الوطني ضد النظام الاستعماري. بعد أحداث يناير 1944 بعامين، قررت فرنسا تغيير مقيمها العام في سياق سياسة جديدة تتجه إلى الانفراج محل التوتر. فعاد الزعماء من المنافي وخرج الوطنيون من السجون وبدأت الحركة الوطنية تعمل على بناء تنظيماتها الحزبية لتوعية الشعب بوجوب التضامن والتماسك من أجل المواجهة مع الواقع الاستعماري الجاتم على البلاد. لكن الانفراج السياسي لن يدوم طويلا عندما عينت الحكومة الفرنسية مقيما عاما الجنرال جوان الذي جاء إلى المغرب من أجل تطبيق سياسة معادية للملك محمد الخامس رحمه الله والقادة الوطنيين. كان جوان يريد من الملك أن يتبرأ من حزب الاستقلال باعتباره منظمة سياسية معادية للوجود الاستعماري وكان جوان يهدد الملك بأن عليه أن يسمع كلام الإقامة العامة وإلا فإن عليه أن يستعد للتنازل عن العرش والذهاب إلى المنفى. لم يستسلم الملك للتهديدات المتوالية واستمر الوطنيون في تصعيد الكفاح ضد النظام الاستعماري وفي النهاية كانت المؤامرة ضد الوطنيين في دجنبر 1952 وضد الملك في غشت 1953 حيث تم إبعاده إلى جزيرة كورسيكا. وكان رد فعل المغاربة هو الانخراط الجماعي في ما سيعرف بثورة الملك والشعب التي أظهرت إلى أي حد تمكن الوطنيون من غرس تقاليد النضال في مختلف فئات المجتمع المغربي. وفي النهاية، عاد الملك إلى عرشه وتحقق استقلال المغرب في مارس 1956 بعد مرور 12 سنة على تقديم عريضة الاستقلال.