لم تفاجئنا تصريحات (البيانوني) زعيم الإخوان المسلمين السوريين بشأن انشقاق عبد الحليم خدام، فقد حذرنا مراراً من أن استمرار استخفاف القيادة السورية بدعوات المصالحة الوطنية التي أطلقها الإخوان وسواهم من القوى والرموز الوطنية لا بد أن يؤدي إلى دفعهم نحو خيارات أخرى، لاسيما في ظل إيمانهم بأن الجماهير السورية ليست مقتنعة بأن نظامها يخوض معركة الأمة ضد أمريكا والدولة العبرية. من الصعب القول إن الإخوان السوريين قد رحبوا بانضمام خدام إلى المعارضة السورية، فخلاصة التصريحات المتوالية لزعيمهم لا تشي بشيء كهذا، بقدر ما تؤكد محاولة حذرة لاستثمار انشقاق الرجل القوي في الحكم السوري من أجل الضغط على النظام ودفعه إلى بعض الإصلاحات السياسية المعقولة، والخلاصة هي قول الشيء ونقيضه من خلال وضع اشتراطات صعبة من قبيل الاعتذار للشعبين السوري واللبناني وكشف الحقائق حول الحقبة الماضية، الأمر الذي لا يمكن أن يكون مقبولاً من رجل يعتقد أنه المؤهل لحكم سوريا بديلاً عن بشار الأسد. يعكس هذا الموقف المتذبذب للإخوان وضعاً مفهوماً بالنسبة لحركة تراقب وضعها ووضع جماهيرها في الداخل من دون أن تغفل عن تحولات المعركة التي تديرها واشنطن ضد الأمة العربية والإسلامية، لاسيما وهي تعلم أن ما يدفع بوش لاستهداف النظام السوري لا صلة له البتة بفساده أودكتاتوريته، بقدر ما هو جزء من مخطط أكبر لتركيع المنطقة لأحلام الصهاينة الذي يتلاعبون بإدارته طولاً وعرضاً. بل إنها تدرك أيضاً أن ما يعوق مخطط واشنطن للإطاحة بالنظام إنما يتمثل في جانب أساسي بصورة البديل الإسلامي الذي يمثلونه، لاسيما بعد تجربتها المرة في العراق، وحيث سيطرت القوى "الأصولية" بشقيها الشيعي والسني. لنتحدث الآن عن الوجه الآخر للصورة بكل صراحة. السوريون المطحونون بالقمع والفساد في الداخل، وكما كان حال العراقيين من قبل، لا يرون من النظام إلا صورة القمع والفساد، خلافاً بالطبع لحالنا نحن في الخارج ممن نحسب اللعبة بطريقة أخرى تأخذ في الاعتبار جملة المواقف القومية للنظام، والتي تشكل من دون شك حالة متقدمة قياساً بمفردات النظام العربي الرسمي. إنها مواقف طبيعية في زمن القطرية البائس؛ فكما عجزت القوى والجماهير الإسلامية في معظم العالم العربي والإسلامي عن إقناع الكويتيين بصواب موقفها من حرب "تحرير الكويت"، وكما عجزت عن إقناع العراقيين برفض مجيء القوات الأمريكية، حتى أولئك المنخرطين الآن في مقاومتها، فإنها ستعجز بالضرورة عن إقناع السوريين بأن دعم فساد أوضاعهم الداخلية هو الحل الوحيد لمواجهة الاستهداف الأمريكي. نقول ذلك ونحن في منتهى الأسف، كما نقوله ونحن مصرون على موقفنا الداعم والمؤيد للقيادة السورية في مواجهة الاستهداف الأمريكي الصهيوني، لكنه التحليل الواقعي، إذ ليس بوسع القوى السياسية السورية أن تتجاهل ضجر جماهيرها من الواقع الداخلي، لاسيما بعد أن ساهم انشقاق خدام في التذكير بعبثيته، إذ أي نظام هذا الذي يتحول أحد أكبر رموزه إلى خائن وفاسد وملعون بين عشية وضحاها، وأي مجلس شعب هذا الذي يتحول إلى ساحة للردح والتشهير بحق رجل كان قبل أيام سيد الحكمة ورائدها في البلاد؟! قلنا مراراً إننا لا نطالب القيادة السورية بأن تحوّل البلاد إلى ديمقراطية سويسرية، وقبل أسابيع كان البيانوني نفسه في حوار مع الجزيرة يقول إنهم لا يطالبون بتغيير بشار الأسد، بل بتغيير الأوضاع السياسية ضمن منظومة إصلاح معقولة، وها هو اليوم يتحدث بلغة مختلفة بعد أن تبين له ولمن معه أن النظام قد أغلق أذنيه بالكامل في وجه دعوات الإصلاح، مع أن جوهر مواقف الإخوان السوريين ما زالت ضد التدخل الأمريكي. قضية انشقاق خدام ليست هامشية، وأظن أن القيادة السورية تعي ذلك، لاسيما بعد أن لعب الرجل على الوتر الطائفي حين أشار إلى أن سوريا قتلت زعيم السنة في لبنان بينما تحابي حزب الله الشيعي، فيما طرح نفسه زعيما سنياً في مواجهة حكم طائفي علوي، وفي أجواء عربية وإقليمية تثور فيها حكاية الشيعة والسنة، كما في حكاية الهلال الشيعي (العلويون طائفة مختلفة عن الشيعة الاثني عشرية، لكن البعض يحسبهم على الشيعة أيضاً). يأتي ذلك بعد سنوات من غياب هذه اللغة في الداخل السوري، وإن لم يغير ذلك كثيراً في الحقائق الموضوعية على الأرض، مع التذكير بأن الإخوان الذين خاضوا معركة أوائل الثمانينات تحت يافطة طائفية سنية في مواجهة العلوية (الكافرة) قد توقفوا عن ذلك منذ سنوات طويلة لاعتبارات سياسية كثيرة تتعلق بوجود معارضين علويين في الخارج، فضلاً عن وجود رموز سنة فاعلين في الحكم، كما هو حال عبد الحليم خدام نفسه. ندرك أن سوريا ليست في وضع ضعيف، لاسيما بعد أن اختارت مسار الصمود، وبالطبع في مواجهة حالة ضعف وارتباك أمريكي، لكن الأكيد هو أن موقفاً منفتحاً في الداخل سيعزز عناصر القوة والصمود. بالمقابل على الإخوان السوريين أن يظلوا كما كان حالهم دائماً بمنأى عن أية صيغة تنطوي على شبهة التعاون مع القوى الخارجية، بصرف النظر عن الشعارات التي تطرحها. أما خدام هذا فلا يمكن أن يكون عنواناً للتغيير، وهو الذي استنكف عن تقديم اعتذار للبنانيين عن جرائمه بحقهم، فيما لن يفعل بالنسبة للسوريين أيضاً. ألم يحصر الكارثة كلها في عهد بشار الأسد، فيما دبج المديح في عهد أبيه، مع أن السوريين لا يحتفظون للابن بأية ذكريات مأساوية حتى لو لم يحقق لهم الانفتاح المطلوب؟!