بصرف النظر عن موقفنا من السلوك السياسي للنظام السوري، فإن الموقف الطبيعي لأي شريف يحب سوريا ويحب هذه الأمة المستهدفة باستهداف سوريا لن يخرج من دائرة الازدراء لهذا الذي فعله عبد الحليم خدام، والذي تذكر متأخراً، بل متأخراً جداً أن سوريا دولة أمنية، وأنها مدججة بالفساد، وأن معظم شعبها يعيش تحت خط الفقر. أي جديد اكتشفه خدام في دولة كان ركناً أساسياً من أركانها؟ أما بشار الأسد فقد ورث ما ورث عن المرحلة السابقة التي كان فيها خدام سيداً مطاعاً، بل ومدللاً أيضاً بوصفه الرمز السنّي الأساسي بين طابور من العلويين المتهمين بالطائفية. كيف نمرر مقولة أن خدام قد اختار الوطن وليس النظام، وأين هي المسافة بين النظام والوطن، بل حتى الأمة في هذه المعركة التي يديرها المحافظون الجدد ضد سوريا والمنطقة برمتها؟ لو كان خدام نزيهاً وصادقاً بالفعل لقبل الكثيرون منه هذه الخطوة "الجريئة"، لكنه كان جزءً لا يتجزأ من المشهد الذي تحدث عنه، وإلا فمن أين جاءت عشرات الملايين، وربما أكثر من ذلك له ولأولاده وأصهاره؟ هل وفرها من راتبه المخصص له بوصفه نائباً للرئيس؟! هذا من حيث الموقف الأخلاقي حيال ما فعله، ونذكّر هنا برأينا المعروف في السلوك الداخلي للنظام السوري، إذ لطالما طالبناه بخطوات انفتاح على الداخل كي لا يتكرر النموذج العراقي، ولطالما قلنا أيضاً إن السوريين يستحقون أفضل من هذا الوضع القائم على صعيد الحريات والتعددية حتى لو لم يكن العدو واقفاً بالباب كما هو حاله الآن. نذكّر أيضاً بأن رأينا لم يكن يختلف عن رأي الكثيرين فيما يتعلق بارتباك الأداء السوري في لبنان منذ قرار التمديد للرئيس لحود والتلكؤ في سحب القوات السورية من أراضيه، لكن ذلك كله شيء وما فعله عبد الحليم خدام شيء آخر تماماً. نأتي إلى تحليل دوافع الرجل، وهنا يمكن القول إن أطرافاً ربما شجعته على هذه الخطوة، أكانت عربية لها موقفها المستاء من السياسة السورية في لبنان، لاسيما ما يتعلق بقتل الحريري، أم كانت دولية، تحديداً فرنسا التي لجأ إليها. لعل الجانب الأهم الذي انتظره المشاهد من كلام الرجل هو المتعلق بسؤال "من اغتال رفيق الحريري؟"، وهو ما أجاب عليه ولم يجب. لم يجب من الناحية الشكلية بتأكيده على انتظار نتائج التحقيق، ربما لخوفه من الوقوع في الفخ ومطالبة البعض له بأدلة، لكنه أجاب من الناحية الواقعية، ومضمون كلامه واضح باتهام نظام بلاده بالجريمة. الأسوأ من إقراره باتهام النظام هو إصراره على أن عملية كهذه لا يمكن أن تنفذ من دون علم الرئيس، والنتيجة هي اتهام الأسد شخصياً بالوقوف خلف الجريمة، لاسيما بعد قوله إن الأسد شخصياً قد هدد الحريري بقوله "سنسحق" كل من يقف في وجه سياساتنا في لبنان. هنا تحديداً تكمن الخطورة، ومن هنا يبدأ الخيط المفضي إلى الدافع الحقيقي خلف خروج خدام عن النظام الذي كان جزءً أساسياً منه طوال عقود، وفي العموم فإن ما جرى قد يشير إلى احتمالين؛ يتمثل الأول في وعود فرنسية للرجل تحظى بموافقة أمريكية وتستند إلى معادلة أن النظام في طريقه إلى الانهيار، وأن البديل هو نظام من ذات القماشة أو العجينة، بزعامة رجل ينتمي إلى الغالبية السنية، وليس الأقلية العلوية، ويبعد بالضرورة شبح الحالة الإسلامية التي انفجرت في العراق ويمكن أن تنفجر في سوريا، ربما على نحو أسوأ. أما الثاني فهو أن خدام هو الذي قرر عرض نفسه كبديل لبشار الأسد المتورط في قتل الحريري. خلاصة القول هي أنه إذا لم يكن خدام هو الذي قرر عرض نفسه كبديل، وأن الموافقة من عدمها ستتضح لاحقاً، فإن انشقاقه كان طبخة فرنسية لحل المعضلة السورية نالت أو ستنال لاحقاً الرضا الأمريكي في ظل غياب البدائل الأخرى، وفي ظل مسلسل الانسجام الفرنسي الأمريكي في الملف الشرق أوسطي، وليس غريباً بعد ذلك أن يحظى بدعم عربي من هنا أو هناك بوصفه حلاً مناسباً للخروج من المأزق الذي قد يهدد الدول العربية الأخرى، وتبقى بالطبع أسئلة كثيرة تتعلق بالجزء التالي من الصفقة، أعني مفرداتها الأهم بالنسبة للأمريكيين، وعلى رأسها الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي والموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق، أما مفردات السياسة الداخلية فلا أهمية لها، وما سيطلب من النظام الجديد لن يتعدى ديمقراطية ديكور على غرار ما هو معمول به في كثير من الدول العربية الأخرى. ولكن هل كان تقدير عبد الحليم خدام لخطوته الدرامية دقيقاً؟ من الواضح أن عبد الحليم خدام قد استند في رؤيته الانقلابية، أو الإصلاحية بحسب اعتقاده، إلى تقدير سياسي يشبه التقدير الذي تروجه الجهات التي ربما أقنعته باتخاذ الخطوة، إذا كان هناك بالفعل من أقنعه، ولم يكن هو الذي قرر طرح نفسه في سوق التداول السياسي كبديل جاهز لمن يفكرون في البدائل. خلاصة ذلك التقدير هي أن النظام في سبيله إلى الانهيار وأن ما يؤخر "الدفشة" الأخيرة نحو الهاوية إنما يتمثل في غياب البديل بعد أن أسفرت مغامرات الأمريكان في أفغانستان عن عودة أمراء الحرب والإسلاميين ذوي اللحى الطويلة على شاكلة سياف ورباني، ولا تسأل عن حصيلة مغامرتهم في العراق، وحيث وضع البلد رهينة بيد الإيرانيين من جهة والجهاديين من جهة أخرى، فضلاً عن نتائج الانتخابات في مصر وفلسطين وقبل ذلك في إيران. نتذكر هنا أن الإسرائيليين الأكثر اهتماماً بالملف السوري ما يزالون مترددين حيال هذا الملف، ويميل أكثر سياسييهم إلى التريث في معالجته خشية جلب "المجاهدين" إلى حدود دولتهم، وهم الذي يرون أشباحهم تطل من لبنان ومن سيناء على نحو يطيّر النوم من العيون. على هذا الأساس كان على خدام الذي جرب السلطة وخمرتها عقوداً طوال ثم أحيل على التقاعد أن يغامر بتقديم نفسه كبديل جاهز يحقق المطلوب من دون تداعيات سيئة، ولا بد تبعاً لذلك من أن يقوم بتخريج انشقاقه بوصفه خروجاً على نظام أذل الناس وأفقرهم ولم يحقق الإصلاح المطلوب، في ذات الوقت الذي يغامر فيه بوضع البلد رهن العقوبات الدولية على غرار ما فعل صدام حسين، وبالطبع من خلال مغامرات صبيانية مردها قلة الخبرة وسياسة ردود الأفعال، فضلاً عن نصائح المستشارين المغامرين أو المغرضين!! ما ينبغي أن يقال هنا هو أن خدام لم يكن موفقاً في خروجه المدوي، ليس من الناحية الأخلاقية فحسب، بل أيضاً من الناحية السياسية، إذ ليس صحيحاً أن النظام في حالة انهيار، وأن واشنطن تسن أسنانها لمنحه تأشيرة الرحيل، وأن ما يعيقها هو غياب البديل، ذلك أن ما يجري في طول العالم وعرضه إنما يؤكد أن النظام الأمريكي يعيش لحظات حرجة ومسلسلاً من الفشل بلا حدود ما زال يضطره إلى تقديم تنازلات للشركاء الدوليين، كما في حالة فرنسا التي تشير علاقتها القوية مع واشنطن إلى تنازلات من هذه الأخيرة أكثر من أي شيء آخر. ما يفعله الرئيس الإيراني منذ شهور ليس نتاج مغامرات طائشة لزعيم أصولي، بل هو جزء من التحدي الواضح لإمبراطورية تعاني الفشل على مختلف الأصعدة، وهو جانب يستحق وقفة خاصة، وفي العموم فإن سوريا لا تبدو في ذلك المستوى من الضعف الذي يهدد بزوال قريب للنظام، إذ ما يزال بوسعها الصمود لوقت طويل حتى لو بدأ مسلسل العقوبات اعتباراً من الغد، وحتى الموقف في لبنان لم يخرج عن السيطرة، بل على العكس من ذلك يبدو وضع السوريين أفضل من ذي قبل بعد تحولات العماد عون وتلويحه مع حزب الله بمسار إعادة الانتخابات النيابية كحل لاستعادة الأغلبية النيابية من تيار المستقبل وجنبلاط. من هنا يمكن القول إن مراهنة خدام ليست في مكانها، ولولا شهوة السلطة وربما الانتقام للنفس لكان بوسعه أن يرى الصورة على نحو مختلف، لاسيما وهو السياسي المحنك وصاحب الرؤى المميزة في الصراع على المنطقة. نعود إلى التأكيد على أن ما قلناه لا يغير من قناعتنا بضرورة أن ينفتح النظام السوري على الجماهير والقوى السياسية، ليس فقط من أجل تمتين الجبهة الداخلية، بل لأن السوريين يستحقون أن يخرجوا من كابوس الدولة الأمنية الذي لم يعد له مكان في عالمنا المعاصر.