من معالم الوسطية في المجال السياسي أيضا، ما بسطه الدكتور سالم العوا في بحث له ألقي في مؤتمر وسطية الإسلام بين الفكر والممارسة بالأردن: أن مرجع الحقوق والواجبات في العلاقة بين الحاكم والمحكوم كلها إلى نصوص القرآن والسنة النبوية، وإلى الاجتهاد في فهمهما والعمل بهما، وهو اجتهاد يتعدد بتعدد مذاهب المجتهدين في عشرات المسائل الأصولية، وفي علوم الرواية والدراية، وفي مسائل لغوية مما يتعلق به تفسير النصوص وفهمها وتنزيلها على الواقع الذي يجرى الاجتهاد في ظله. ومؤدى هذا كله هو وجوب الالتزام بالمرجعية الإسلامية في شأننا التعبدي، وفي شأننا الدنيوي أيا كان مجاله، فإن كان ثمة نص تفصيلي قطعي الثبوت والدلالة وجب تطبيقه، كما ورد عن الله ورسوله، وإن كان النص ظنيا في دلالته أو ثبوته وجب الاجتهاد في الأمرين أو أحدهما. المقصد الأسمى للدولة في المجتمع الإسلامي هو تحقيق مصالح المحكومين وتمكينهم من القيام بواجب الخلافة في الأرض، فكل طريق تحقق هذا المقصد يجب سلوكها وكل اجتهاد قديم أو حديث يقعد عن تحقيقه، في وقت من الأوقات، ولو كان قد حققه في زمن سابق، يجب العدول عنه ولا يصح التمسك به. وليس هناك نظام يحول بين الحكام وبين الجور والظلم ويحول دون الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة، وبين الحاكمين وقمع المخالفين بالقوة الغاشمة بالسلطة، إلا نظام يتقرر فيه وجوب تداول السلطة بالطرق السلمية (يقصد النظام الديموقراطي والانتخاب). وهذا التداول يؤدي إلى أن لا ينفرد شخص أو حزب أو جماعة أو حزب أو طائفة بحكم الناس إلى ما لانهاية، أو إلى أن يقع انقلاب عسكري يأتي بمستبدين جدد، أو إلى أن تغزو ديار المسلمين قوة أجنبية، كما وقع في العراق تستبيح المحرمات وتحكم بالحديد والنار، وتتدخل الأمة الإسلامية في مسلسل الاستعمار من جديد. ولا يعترض على آلية الانتخاب بالقول إنها بدعة أجنبية تقليدها حرام، فإنه أشد حرمة من ذلك أن يبقى الظلمة الغشمة متسلطين على رقاب العباد بدعوى أمن الفتنة، وقديما قال ابن القيم الجوزية: إن أي طريق أسفر بها وجه الحق والعدل فثم شرع الله ودينه. والمسألة السياسية في تفاصيلها المتعلقة بالنظم وشكل الدولة والآليات الضابطة لعلاقة الحاكم بالمحكومين تنصيبا وخلعا وتداولا..إلخ، كل ذلك يدخل في إطار السياسة الشرعية، ومن ثم فقضاياها قضايا اجتهادية ظنية تقتضي في كل عصر اجتهادا متجددا تتحقق به مصالح أهله. غير أن الاجتهاد السياسي يبقى إيقاعه مضبوطا بالالتزام بالقيم السياسية الإسلامية المنصوص عليها في القرآن والسنة النبوية الكريمة، وما بني عليها من قواعد فقهية. فأما القيم السياسية الإسلامية فنعني بها أحكاما ملزمة للحكام والمحكومين والفقهاء والمجتهدين، على السواء، ذلك أنها كلها محل نصوص صريحة من الكتاب والسنة النبوية، والالتزام بها موضع إجماع من الأمة على امتداد العصور. أما القواعد الفقهية المستنبطة من هذه القيم، فهي قوانين كلية تستخرج من الأحكام التفصيلية، مثل قاعدة الضرورات تبيح المحظورات وقاعدة وجوب جلب المصلحة ودرء المفسدة، وأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة. والقيمة الأساسية التي تتفرع عنها سائر القيم السياسية الإسلامية هي مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ المقرر في القرآن الكريم... وقد وصف الإمام الغزالي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنه القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة التي ابتعث الله لها النبيئين أجمعين. والقيمة الأساسية التي تلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأهمية هي الشورى، وقد ذكرها القرآن في آيتين كريمتين إحداهما مكية نزلت قبل أن تكون للمسلمين دولة ولا حكومة، لتدل على أصالة هذه القيمة في البنيان الإسلامي، وأنها من خصائص الإسلام التي يجب أن يلتزمها المسلمون، سواء أكانوا يشكلون جماعة لم تقم لها دولة، أم كانت لهم دولة قائمة بالفعل، كما كانت حالهم في المدينة. والصحيح من أقوال الفقهاء هو وجوب الشورى ابتداء ولزومها انتهاء، بحيث لا يجوز للحاكم تركها وأنها تشمل الشؤون العامة كافة، وإن تحديد من يُستشارون وكيف تتم استشارتهم والمدة، التي يشغلها المشيرون في التنظيم الذي تدار به الشورى، كل ذلك من الأمور التفصيلية المتروكة لأولي الرأي من العلماء والفقهاء والمنظرين في الأمة الإسلامية. والتعددية السياسية أصل من الأصول التي تسلم بها المدرسة الوسطية السياسية في الفكر الإسلامي المعاصر، والتعددية معنى في جوهرها التسليم بالاختلاف: التسليم به واقعا لا يسع عاقلا إنكاره، والتسليم به حقا للمختلفين لا يملك أحد أو سلطة حرمانهم منه، وقد تكون سياسية أو اقتصادية أودينية أو عرقية أو لغوية أو نحو ذلك.