لو طلبت من أدنى مطّلع أن يعدد لك بعض الأسماء اللامعة في المجتمع العربي قبل الإسلام فإنك تتوقع منه أن يذكر لك مثلا: عنترة بن شداد وحاتم الطائي وامرأ القيس، ولو فكرنا مليا في مغزى انتشار هذه الأسماء واحتفاظ الذاكرة العربية بها فسنكتشف أن هذه الأسماء لا تعبر عن ذواتها بقدر ما تعبر عن منظومة قيمية مترابطة من ثلاثة أركان: القوة، والسخاء، والفصاحة، هذا يعني أن هذه الأسماء لم يكن لها أن تصعد في سماء ذلك المجتمع لولا احتضان المجتمع نفسه لهذه القيم واتخاذها معايير عادلة ومنضبطة لتقويم السلوك حتى أصبحت جزءا من منظومتهم التربوية بحيث إن كل أم تسعى وتتمنى أن يكون لها ابن يشار إليه بالبنان مثل واحد من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم. مع مجيء الرسالة الإسلامية وتكوين الأمة الجديدة نرى بروز أسماء أخرى تحمل دلالات أكبر وأوسع، فلو أخذنا من جيل الصحابة مثلا بعض الأسماء اللامعة كالخلفاء الراشدين وحمزة بن عبدالمطلب وخالد بن الوليد وأبي هريرة وابن مسعود، وكل الصحابة نجوم لامعة، ثم لو انتقلنا إلى الأجيال التابعة فسنجد مثلا البخاري ومسلما والأئمة الأربعة وابن حزم والغزالي وابن تيمية وابن خلدون وقادة الأمة الكبار كهارون الرشيد والمعتصم وطارق ابن زياد وصلاح الدين ومحمد الفاتح..إلخ، لوجدنا معاني وقيما جديدة تتناسب مع النقلة الكبيرة التي أحدثها الإسلام، هذه القيم أخذت طابع العمل الجماعي، ومعايير الدولة، وعلاقة السلطة بالمجتمع، والمنظومة العلمية والمعرفية التي يؤسس عليها المجتمع والدولة المنبثقة من هذا المجتمع. نلاحظ في الرموز التي صنعتها معايير المجتمع الإسلامي الجديد أنها رموز عالمية المنشأ ففيهم العربي والفارسي والتركي والكردي والبخاري والأمازيغي، وذلك تبعا لعالمية الإسلام التي استعلى بها على النزعة القبلية والقومية، كما نجدها تتناسب مع حاجة المجتمع في النهضة والعمران والحضارة الصاعدة. وبمقارنة سريعة مع الواقع الذي نعيشه اليوم فإن الأسماء اللامعة في سمائنا التي تحتل مكان (النجومية) في عقول شبابنا وقلوبهم لا تعبر في الغالب إلا عن أسماء ذات دلالات فنية كالغناء والتمثيل أو دلالات رياضية! بمعنى أن الجانب الترفيهي هو المسيطر على توجهات الشباب، وإذا اتجهنا إلى الشباب المتدين خاصة فبالتأكيد سنجد أسماء مختلفة لكنها في الغالب ذات طابع وعظي وشعبي بعيد إلى حد كبير عن لغة التأصيل العلمي الرصين والعمق الفكري الدقيق، ومن الناحية النفسية فهذا قد لا يختلف كثيرا عن النوع الأول، فكلاهما يبحث عن الراحة القريبة وإن اختلفت أسبابها ومظاهرها. في معرض الدوحة للكتاب كان واحد من أصحاب النشر المعروفة يحدثنا أن أغلب الكتب الرائجة التي تحظى باهتمام القراء هي كتب القصص والروايات، وهذا مؤشر آخر على المزاج العام ونظرته إلى العلوم والمعارف، فضلا عن تلك المجالات التي تتطلب قدرا أكبر من الجهد والتضحية. إن ناقوس الخطر الذي كان على قادة الرأي فينا وأصحاب القرار في المؤسسات الرسمية والمجتمعية أن يسمعوه هو هذا قبل أي شيء آخر، ومن هنا ينبغي أن تبدأ الخطوات الأولى للإصلاح.; لا ينبغي أن نتناول القيم باعتبارها أخلاقا وآدابا موكولة إلى وعي الشخص وتربيته ونمط حياته، على أهميّة هذه المعاني، بل لا بد من النظر إليها باعتبارها معايير كليّة تقيس وعي المجتمع بذاته وحاجاته وأهدافه وطموحاته. لو نظرنا مثلا إلى القيم العربية قبل الإسلام لوجدناها في الغالب تعبّر عن طيبة بدوية وفطرة نقية، ولكنها قبل هذا تعبّر عن حاجة مجتمعية تصل إلى حد الضرورة، فالبدو الذين لا تحكمهم دولة ولا نظام كانوا بحاجة أكيدة لنصرة ضعيفهم وإعانة فقيرهم ونجدة ملهوفهم، بل ولحماية أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ومن هنا كانت قيم (الشجاعة والقوة والنجدة والسخاء) أشبه بالمستلزمات الضرورية لحفظ الحياة، أما الشعر فكان وسيلتهم الأقوى لتنمية كل تلك القيم ونشرها وتشجيع روح المنافسة فيها. في العصر العبّاسي كان الاهتمام بقيمة العلم بشكل لافت واستثنائي؛ حيث ازدهرت حركة الاجتهاد والتحقيق والتدوين والترجمة وهذا كله يعبّر عن حاجة كبيرة وملحّة أيضا بعد أن أصبح العرب يقودون أكبر تجربة حضارية في التاريخ البشري. وحينما نلتفت إلى النهضة الأوروبية التي تجاوزت عصور الظلام الموغلة في الخرافة والظلم والاحتراب الداخلي فإننا نجد مجموعة من القيم الجديدة والبعيدة عن قيم الكنيسة وحلفائها من الملوك ورجال الإقطاع قد وُلدت كلها من رحم المعاناة الطويلة والشعور بالحاجة إلى القيم التي تؤسس للحل، بمعنى أن تلك الشعوب شخّصت بالضبط حاجاتها الضرورية الملحّة وصنعت لها منظومة من المعايير الموجّهة والحاكمة مثل (العلم) و (العمل) و (الحريّة) و (المواطنة) و (المسؤولية) و (احترام الوقت).. إلخ وقد شكلت هذه القيم الرؤية المجتمعية الواحدة لصورة الإنسان والدولة والمجتمع وطبيعة الحياة التي يريدونها، ثُم جاء دور المختصّين ليضعوا البرامج والآليات والتشريعات المناسبة لتقريب تلك القيم من أرض الواقع، ويخطئ من يظنّ أن القانون أو النظام السياسي أو الطفرة الصناعية هي التي أحدثت هذا الانقلاب في الحياة الأوروبية. نرجع الآن إلى واقعنا المعاصر ووفق تلك المعايير لنكتشف ربما أنه لا يوجد اتفاق حتى على تشخيص الحاجات والتحديات الأساسية، وهذا يعني أن الأمة غير واعية بذاتها ولا بمشكلاتها، ولذلك تجد الشباب مثلا وهم العمود الفقري في الأمة تتنازعهم قيم غريبة كثير منها يعبر عن حاجة مستمرة إلى الترفيه أو تحسين الوضع الشكلي في المجتمع ولو بالشهادات المزيّفة والمظاهر الفارغة في ظرف يتم فيه سحقهم وسحق مستقبلهم، بل ربما تكتشف أن كل هذا الذي يجري في العراق وسوريا واليمن وغيرها ومنذ سنوات لم يتمكن حتى من تشكيل الإحساس بالخطر لدى فئات ليست قليلة منهم! ولكي لا نظلم هؤلاء الشباب فإنك لتعجب أكثر حينما تجد نقاشات (المفكرين) تقفز بعيدا عن أنهار الدم في حلب والموصل وتعز لتطرح بقوّة إشكالية (الحكم الوراثي) الذي (ابتدعه معاوية) وكيفية إقناع الأمة بضرورة تصحيح هذا الخطأ الذي مرّت عليه القرون! وقد رأيت من (المتحمّسين) من يحرّم استعانة أهل حلب أو الموصل بأردوغان مثلا لأنه (لا يحكم بما أنزل الله). إن اضطراب القيم يعكس بالضرورة اضطراب الوعي بالذات، واضطراب الأولويات، وغياب الرؤية الجامعة لتوجهات المجتمع واهتماماته.; إذا سلّمنا بمقولة ابن خلدون أن للأمم أعمارا كالأفراد، حيث ينشأ طفلا صغيرا ثم يشبّ ويقوى وهكذا حتى يعود إلى الكهولة ثم الشيخوخة والموت، وهو بين كل هذه المراحل تعتريه العوارض وعوامل الصحة والمرض والقوّة والضعف، فكذلك الأمم والمجتمعات، فهذا يعني أن ما نمرّ به اليوم ليس سوى حالة تعتري كل الأمم والشعوب الأخرى، فالدول التي نراها اليوم قوية أو ضعيفة هي بكل تأكيد لم تكن كذلك في كل تاريخها، إن أميركا اليوم ليست أميركا الأمس، وأوربا التي يبدو عليها آثار الشيخوخة كانت قبل قرن فقط تقود العالم وتستعمر أميركا نفسها، وأن اليهود الذين استعلوا علينا اليوم عاشوا تاريخهم الطويل مشتتين في الأرض لا تحويهم أرض ولا تضمهم دولة. ليست هناك أمة في العالم إلا وهي معرّضة لما نتعرّض له نحن اليوم في هذه المرحلة العصيبة غير أن التحدّي الأصعب هو في قدرتنا على تقصير عمر هذه المرحلة والإسراع بالنهوض من جديد، هكذا فعلت اليابان بعد هزيمتها المنكرة أمام الأميركان وهكذا فعلت ألمانيا أيضا، ونحن لسنا بأقل شأنا منهما، ومن هنا تأتي أهمية المنظومة القيمية التي نرتكز عليها ونحن نحاول النهوض. إن إلقاء اللوم على الحكام (المستبدّين) لم يعد ذا جدوى، ولا ندري لو أتيح لهؤلاء اللائمين الذين يعلقون كل آمالهم على (التغيير) ماذا هم فاعلون لو آلت إليهم المقاليد؟ إذ أن تجربة الربيع العربي كشفت عن حقيقة مؤلمة؛ أن شعوبنا لا يختلفون كثيرا عن حكامهم، رأيناهم كسياسيين ومجاهدين وثوّار وفصائل مقاومة كيف تضطرب أمورهم في أول يوم يمتلكون فيه شيئا من المال أو السلاح أو حتى مساحة صغيرة من منّصات الإعلام! لا زلت أذكر حوارا حادّا بين أحد الخطباء في بغداد مع نائب رئيس الجمهورية عزة الدوري، قال له الدوري: أعطني شعبا كشعب أبي بكر وعمر وأنا أطبق فيهم الشريعة، فقال له الشيخ (بثقة): أعطني ساعة واحدة في الأسبوع من تلفزيون الشباب وأنا أكوّن لك شعبا كشعب أبي بكر وعمر! ودارت الأيام وها نحن نملك اليوم أكثر من فضائية (إسلاميّة) لكننا لم نزدد بها إلا شتاتا وربما بعدا عن قيم الإسلام أيضا. إن (الاستبداد) الذي كنّا نشكو منه تبيّن أنه ثقافة مجتمع أكثر من كونه ممارسة حاكم، وإن (النفاق) الذي كنا نشكو منه باعتباره وسيلة للتقرب إلى (الحاكم المستبد) صرنا نراه اليوم وسيلة شائعة للتقرب للأحزاب (الديمقراطية) و الجماعات (الدينية) حتى لشيوخ العشائر وشيوخ المال وشيوخ الشاشات، وقد وصل هذا الداء إلى القضاء والتعليم وكل مفاصل المجتمع، على تفاوت بين المجتمعات. إننا لا بد أن نصارح أنفسنا ومجتمعاتنا أن الطريق الذي نمشي به الآن وإن كان يحقق لنا بعض المكاسب الشخصية والآنية إلا أننا في النهاية قد نخسر كل شيء. إن قادة الفكر والرأي مطالبون اليوم بتحديد منظومة من القيم الضرورية التي تناسب التحديات الكبرى في كل بلد، ثم العمل على نشرها وترسيخها في المجتمع حتى تصبح معيارا حاضرا في ثقافته وحياته اليومية يحكم بها على نفسه وعلى أفراده ومؤسساته.