كان الحديث في الحلقات الماضية منطلقا من قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون)، والقصد بالدهان هو إظهارالشيء وإخفاء نقيضه، وهو نوع من النفاق يمارسه أعداء الشريعة الإسلامية، سواء من الداخل أو الخارج. وقد بين الدكتور مصطفى بنحمزة في تلك الحلقات أن هؤلاء المداهنين لهم أساليب وطرائق متنوعة في مواجهة المشروع الإسلامي. أساليب المداهنين من بين تلك الأساليب: ضرب اللغة العربية تحت ذرائع شتى، وفي المقابل محاولة نشر لغات أخرى، وكل ذلك من أجل قطع الصلة بالقرآن الكريم، لأنه بدون معرفة العربية لا يمكن فهم القرآن، واللغة ليست مجرد ألفاظ وكلمات، بل هي وعاء ثقافي يحمل الفكر الإسلامي والمضامين الإسلامية، وبهذا نتبين أن المقصود من هذه الحملة هو الإسلام وليس لغته، فهي طريق لفهم الإسلام وتذوق معانيه. ومن المداهنة أيضا محاولة تفكيك المجتمع والعمل على شل حركته، ثم تمزيق الأسرة، وشن حرب ضد ولي أمرها واتهامه بالسلطوية والاستبداد، وقبل هذا عملوا جاهدين على تدمير المؤسسات الدينية تحت عناوين وشعارات مختلفة، وبالإضافة إلى كل هذا، يعملون على تفكيك التشريع الإسلامي، بدعوى أنه لا يحقق العدالة والمساواة. شبهات حول التشريع الإسلامي نحن نعلم أن هذه الأبواق التي تتشدق بمثل هذا الكلام، ما هي إلا ببغاوات تردد حماقات أسيادها، وهم ليسوا أحرارا في أن يقولوا ما شاؤوا، فأول ما تذرعوا به هو أن الإعدام ينافي حقوق الإنسان. نعم، نحن نقر أن قتل النفس التي حرم الله ينافي حقوق الإنسان، وليس المصاب فقط، بل حياته حق للأمة كاملة وقتله فيه نفي لحقها، وكلامهم هذا حق أريد به باطل. نعم، يجب أن نكون ضد الإعدام، لكن هذا لا يتأتى إلا بمنع القتل في أوله، وقد جعل الله قتل النفس التي حرم الله من أكبر الكبائر، ومن قتل نفسا فقد هدم بناء الله، أما وأن نسكت عن القتل الأول الذي هو الجرم الحقيقي، ثم نندد بالقتل الجزاء فهذا غير مقبول، كمن يمنع الدواء ويترك الداء. التشريع الإسلامي موجه للأخلاق إن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، فهو موجه للأخلاق، إذ كل فعل يؤدي إلى الاستهتار بالأخلاق فهو جريمة يعاقب عليها الشرع. مثل: الزنى في حد ذاته يعد في الإسلام جريمة، وإذا ضُبِط الفاعلان أقيم عليهما الحد، أما الغرب فهو يمنع الزنى فقط إذا كان بالإكراه، حتى إذا ضاجع الزوج زوجته كرها، فهو أمام القانون عندهم مجرم يستحق العقاب. في حين إذا مارس هذا الزوج مع امرأة أخرى، فلا جرم ولا عقاب. نعلم أن الصغر من عيوب الإرادة والسن القانوني، كما هو معروف، ثمانية عشر سنة، لكن في باب الجنس نجد في دول كثيرة أن الإنسان يعتبر حرا في جسده ابتداءً من ثلاثة عشر سنة وفي حدود أقصى ستة عشر سنة، وبالاطلاع على لوائح قوانين معظم الدول الغربية، يتبين لنا أنها تبيح الممارسة الجنسية في حدود ثلاثة عشر سنة، وما دام هذا هو شرعهم، فإن أوروبا تعرف نحو خمسين ألف قضية اغتصاب، ولم يحكم للمرأة فيها بشئ لانعدام الدليل. أيضا، عندنا في الشريعة الإسلامية أن الصبيان بعضهم شهود على بعض حتى لا تضيع الحقوق، أما شرط الرجولة في الآية فهو في الأحكام التي تتعلق بالرجال، وفي هذا تتجلى قمة النضج في التشريع الإسلامي. ومما جاء في الشريعة كذلك: أن من وقع منه شيء يسمى شربا، ولو بملعقة، يقام عليه الحد، وهذا تابع لحد الشرب وليس لحد السكر، وقد نظرت الشريعة الإسلامية لما استحدث من الحشيش، وكتب الزركشي كتاب زهر العريش في حكم الحشيش وحكم فيه بالحرمة، في حين أن أوروبا ترى بأن المخدر إذا لم يُغَيب العقل ويؤدي إلى الشغب فهو مباح، أي إذا لم يزعج الرجل المُخَدر الآخرين فهو وشأنه، أما نحن فنقول بأن ما أدى إلى الشيء يعطى حكمه، فحرمت الخلوة والنظرلأنهما يؤديان إلى الزنى، ومثل هذا التشريع يضمن استقرار المجتمع ونقاءه. الجميع عندنا يخضع لحكم الله حاكما أو محكوما، ولنكن على يقين تام بأن ديننا هو الذي يحفظ وجودنا. مسألة إرث المرأة كثرت الأقوال والشعارات في الأيام الأخيرة عن حقوق المرأة، وأشاعوا أن المرأة محتقرة مهانة، فهم يقولون لماذا ترث المرأة نصف ما يرثه الرجل؟ نحن، نعلم أن هذا ليس هو غرضهم، وإنما هم يهدفون إلى نشر الميوعة والانحلال، ووضع المرأة في متحف كاشف لبيع جسدها، ثم لما تهرم وتشيخ، تُرمى في النفايات. إن التوزيع المالي في الشريعة الإسلامية تابع للوظائف الاجتماعية وليس للأنماط الكونية. ومع ذلك، نشير إلى أن المرأة ترث نصف ما يرثه الرجل في 33,16 في المائة فقط من حالات الإرث عندها، والباقي فهي ترث إما مثل الرجل أو أكثر منه أو ترث هي ويحرم الرجل. مثلا: إذا كان هناك زوج وأخت شقيقة وأخت لأب وأخ لأب، فالزوج يرث النصف والأخت الشقيقة ترث النصف والأخت لأب ترث السدس تكملة للثلثين، أما الأخ لأب فهو لا يرث شيئا في هذه الحالة. فهل نقول هنا أن الإسلام ظلم الرجل لما منعه من الإرث؟ وهذه حالة فقط من الحالات. وتشريعنا كذلك يعطي في الحرب للفرس سهمين وللمجاهد سهما واحدا، فهل نقول هنا أن الله فضل الحيوان على الإنسان؟. طبعا، لا. فهو يراعي وظيفة كل منهما، وما يتبع هذه الوظيفة من تكاليف وحاجيات. وظائف مؤسسة الوقف الوقف مؤسسة مالية ضخمة قامت في التاريخ الإسلامي، واستطاعت أن تؤدي رسائل ووظائف كبيرة جدا في جميع الجهات التي كانت فيها حاضرة، وهذه المؤسسة الإسلامية هي التي كانت تسهر على الأيتام والعجزة وتراعي نجاح الدرس الديني، وكانت تهتم بكافة الأعمال الاجتماعية، واحتضنت حماية الحيوان وجعلت للخيل العاجزة وقفا تطعم منه إلى أن تموت، كما جعلت للطفل والخادم وقفا حتى إذا ضاع منهما شيء يعوض منه حتى لا يضرب، وهناك وقف للعرائس تجهز منه المرأة ليلة عرسها حتى لا تشعر بالضيم أو الغبن، والجميع كان يستفيد من هذه الأوقاف سواء كان مسلما أو غير مسلم. وقد استفاد الغربيون من هذه الطريقة، وأصبحوا يطبقونها بكيفية أخرى، إذ إن معظم الجامعات الأمريكية تسير بأموال الوقف، حيث يصل دعم الوقف للجامعات سنويا سبعة ملايير دولار سنويا، ومثل هذه التجربة بدأت تطبق في أندونيسيا. هذا إجمالا ما يمكن قوله عن المداهنة، أما الحديث فالمراد به في هذه الآية: القرآن الكريم، واللغة التي نقل بها القرآن هي مقدسة، وليس فيما يتداوله الناس من اللغات ما له طبيعة دينية إلا ثلاث لغات وهي العبرية والسانسكريتية والعربية، وهذه اللغات الثلاث هي لغات الخطاب الأصلي، أما باقي اللغات الأخرى إنما هي ترجمة للنص الديني الأول.