هذه الآية عبارة عن استفهام استنكاري، فيه استغراب من صنع المداهنين، لم يقل سبحانه (أفيه أنتم مدهنون)، وعدل إلى اسم الإشارة، من أجل تمييز القرآن وتعظيمه. وهي قد تستعمل استعمالا عاديا أو بمعاني أخرى بلاغية، فقد تكون بمعنى الرفعة والتعظيم كما هو في الآية وقد تكون بمعنى مناقض يفيد الاحتقار، كقولك جاءني هذا وأنت تعرف اسمه، فأنت تحتقره ولا تشرفه بذكر اسمه. كان أحد آل البيت يطوف بالكعبة والناس مجتمعين حوله، فقال الأمير من هذا وهو ينظر من بعيد بغير قصد الاحتقار والازدراء، فرد عليه الكميت: وما قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم فمثل هذه الأساليب البلاغية، تساعد على فهم المعاني، وهي لابد منها لأن النحو لا يغني عن البيان والبلاغة. حينما نقول في كلام العرب ضرب موسى عيسى يصعب إعرابها لكن بالضرورة يكون الأول فاعلا والثاني مفعولا به، لأنه إذا تعذرت الحركة كانت الرتبة محفوظة. ونحن دائما نجد في لغتنا قرائن تحدد المعنى من جملتها الرتبة والحركة. نعم قد تختلط المعاني أحيانا على من لا يفهم العربية، لكن من غاص في أغوارها يعرف مقصودها بالتحديد، لأن النص تحكمه ضوابط، إضافة إلى أن أصل الفقه ضبط ما يؤول وما لا يؤول. والذين قالوا بأن القرآن كله مؤول هم أعداء لأمتنا يجب أن نتصدى لهم. هم جيش جرار يعمل على تشكيك الناس في قرآنهم وبالتالي في دينهم، كيف وهم أعاجم يقولون بأن كلام العرب كله يحتمل التأويل؟ يجب أن يهتم شبابنا بلغتهم، لأن في مناصرتها مناصرة لديننا، والتفريط فيها أو إهمالها جرم شنيع. المقصود بالحديث هنا هو القرآن الكريم لأن الله سمى كتابه حديثا، قال تعالى: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) وقال أيضا (الله نزل أحسن الحديث) لكن إذا قلنا الحديث مطلقا فنحن نقصد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل كلام حديث، والعرف يخصصه بحديث رسول الله. إلا أن الرازي قال بأن المراد بقوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) ليس هو القرآن، بل المراد ما قالوه من حديث >أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون...< فهذا الحديث الذي نطقوا به هو الذي أشارت إليه الآية. قوله تعالى: (أنتم مدهنون) اسم فاعل من اسم رباعي وهو أدهن وداهن ومادة أدهن وادهن من مدلولها اللغوي بمعنى الملاينة وهي مأخوذة من طلي الشعر بالدهن وجعله لينا، وهو أصل الاشتقاق، ثم تجاوزالمدلول هذا المعنى إلى نوع من النفاق والتعبير عن غير ماهو في الباطن، إذ يظهر المرء شيئا ويخفي شيئا آخر. قال تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون)، ومن المداهنة أن يعطي المداهن دينه من أجل دنياه. وقد تكون بمعنى أن يبدي للناس تدينه وهو على خلاف ذلك. والمداهنة شيء غير المداراة، فهي نوع من التلطف والملاينة والمكايسة. ونوع من التنازل عن بعض الأمور المادية حتى يعيش الإنسان مع محيطه معيشة هنيئة، فهي أساسا تضحية بمكاسب دنيوية لا تأتي على الدين. ومن ذلك تطلف النبي عليه السلام مع أبي سفيان بقوله: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وكذلك مكايسته مع الرجل الذي إذا غضب، غضب لغضبه ألف من قومه لا يدرون لماذا غضب، يكفي أن يثور فيثور معه قومه، فمداراة مثل هذا الرجل تجنب المسلمين حربا وخسائر، ومن هنا كان سهم المؤلفة قلوبهم، وهم زعماء أقوامهم، وهذا نوع من السياسة الشرعية يبرز ذكاء الفقه الإسلامي واهتمامه بمستجدات الواقع. قد يقول قائل بأن الإسلام يشتري من الناس ضمائرهم وهذا ليس صحيحا، لأننا نلاحظ الجوائز توزع عالميا من أجل استقطاب المثقفين، وهو نفس ما يمكن أن يقال عن المؤلفة قلوبهم. لكن المداهنة شيء آخر وهي نوع من الاحتيال في التعامل، ومحاولة الوصول إلى الأمة الإسلامية عن طريق الدسائس والمكائد، وأمتنا والحمد لله كلما حاربها العدو، زادت قوتها واكتسبت مناعة جديدة، فكل صدمة أو ضربة توجه إليها، إلا وكان من نتيجتها تقوية الصف الإسلامي في نهاية المطاف. أحيانا تكون هذه الأمة مترهلة ومشتتة، فتجمعها الضربات والصعقات، تعرضت لحرب المغول والتتار، ومواجهات المذاهب الفاسدة والحركات الباطنية، وجميع هؤلاء حاولوا الإجهاز على الإسلام والقضاء عليه، لكن دون جدوى، حركة القرامطة مثلا عطلت موسم الحج وقتلت الحجاج وسرقت الحجر الأسود وغيبته لمدة 20 سنة لكن بمجرد أن تتلقى أمتنا مثل هذه الضربات كانت تفيق وربما في أحسن حال، وبوعي جديد، وهو الأمر الذي تأكد وتكرر مرات عديدة. بعد الغيبوبة التي استطاع الاستعمار أن يلقي بالناس فيها خلال الخمسينات والستينات، تولدت صحوة إسلامية تدافع عن مقدسات الإسلام، وقبل هذا الوقت كان هناك ضعف وتدهور، لكن الآن هناك حركة وحركة مضادة، في الستينات كان من المستحيل أن تتوفر الجامعات المغربية على مسجد للصلاة أو أن يبدأ الطالب كلامه بالبسملة أو أن يحمد الله جهرا إذا عطس، أو يقول بأن القرآن هو المرجعية، وكان الشباب في عداء مع المساجد. بعد هذا الوضع المزري الذي مرت منه الأمة الإسلامية، جاءت الصحوة، لأن الإسلام بمثابة أشجار الزيتون تقلم لتقوى في عطائها. المداهنة أشد خطرا من المدفع والرشاش، ذلك أن بعضهم يفضل أن يعيش من داخل المجتمع الإسلامي وأن لا ينفصل عنه، حتى يتسنى له ضرب الإسلام من الداخل، يسرب كل المقولات التي تسيء لهذا الدين، لما يختصم الناس يوم القيامة عند رب العالمين يقول المستضعفون للذين استكبروا (إن كنا لكم تبعا) ويرد الذين استكبروا (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين) ثم يقول الذين استضعفوا ( بل مكر الليل والنهار، إذ تأمروننا أن نكفر بالله). إذا هناك مكر الليل والنهار أي مداهنة، بمعنى أن هؤلاء الضعفاء استدرجوا إلى الضلال عن طريق الخديعة والكيد والدس، وعن طريق اللغة المراوغة والشعارات البراقة مما تضعف النفوس أمامه وتنهزم، وهو معنى المداهنة. الآن أمريكا تعمل على نشر كتب تتحدث عن رسول الله، وتصفه بأنه نبي الموت. وتزعم أن هذا التطرف له أصوله في الشريعة وهي لا تخاف من التطرف بقدر ما تخاف من الاعتدال والوسطية. يقول صاحب كتاب: عولمة الإسلام وهو مترجم إلى العربية إن الإسلام الذي نتخوف منه ليس هو الإسلام العنيف أو إسلام الدماء، لأن العنف لا يكتب له البقاء طويلا، وإنما نتخوف من الإسلام المعتدل< وهذا الكلام لم يأت من فراغ، بل بعد بحث ودراسة، هم الآن يدرسون الصحوة الإسلامية بدقة وبشكل مؤسساتي، فاكتشفوا أن مواجهة الإسلام بالعنف وحده لا تجدي، فلجأوا إلى مكر الليل والنهار، وأول ما يراهنون عليه هو تفسيق المرأة وإبعادها عن دينها، وواجبنا نحن هو المراهنة على تعليم المرأة القرآن الكريم، لأنه إذا تعلمت المرأة كتاب ربها، لا يمكن أن يخترق الغرب مجتمعاتنا. قالوا بأن أوروبا تقدمت ووصلت إلى القمة عن طريق الحداثة، ونحن على العكس من ذلك راجعون إلى الوراء لأننا مقيدون بالنصوص، واقعون تحت الفهم الديني الذي يمنعنا من التقدم، والحق أن أوروبا نهضت لما تخلصت من كثير من قيود الدين المسيحي، لأنه لم يكن وضعا إلهيا بل كان وضعا بشريا. وهذا ما أقرته الحركات التي قامت من أجل الإصلاح الديني فانتقدت الكنيسة وقالت بأن هذا الدين ليس هو الذي كان عليه عيسى عليه السلام، وأن المسيحية وضعت فيها أشياء لم تكن وحيا، فكان جزاؤهم هو القتل. نعم المسيحية فيها أشياء تعوق التقدم العلمي وتمنع التطور، لكن ليس هذا هو حال كل الثقافات نحن في الإسلام ندعو إلى العلم ونحث عليه، في القرويين تعلم الناس كل العلوم بدون تحفظ، كان المسجد مدرسة للتعليم ومؤسسة للإبداع والابتكار، إذا فلا معنى لتنزيل الحالة الأوروبية على الحالة الإسلامية. ليس بالضرورة أن نتنكر لديننا لما تنكر الغربيون لدينهم. ونقول بأنه من الخطأ أن نعتبر الغربيين قد تركوا دينهم، فهم لازالوا متمسكين به، حيث نجد الدولار مكتوب عليه بالله نؤمن. ونجد الصليب على العالم السويسري والدانماركي والبريطاني وغيرهم، كما نجد الصليب هو أهم معلمة في كل مدينة عندهم، والآن تبنى كنيسة تسمى كنيسة الشعب