للوسطية مظاهر وتجليات في العقيدة والعبادة والأخلاق والنظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وفي السلوك الفردي والجماعي. إن أول تجلّ للوسطية يظهر في مجال العقيدة حيث جاءت عقيدة التوحيد في الإسلام موافقة للفطرة في سماحتها ووضوحها واستقامتها وبساطتها بعيدا عن الانحرافات التي وقعت عند اليهود الذين قالوا: (يد الله مغلولة) وإشراك النصارى الذين قالوا: (المسيح ابن الله)، وجفاء الماديين الذين ينكرون الغيب فقالوا (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)، وشطحات الروحانيين الذين لا يعيشون الشهادة ويبتدعون رهبانية ما كتبت عليهم. كما أن منهج القرآن والسنة في تقرير حقائق العقيدة في العقول وآثارها في النفوس لم يعتمد على المنهج الفلسفي النظري على غرار مناهج الفلاسفة ومن سار على نهجهم من المتكلمين، الذين حولوا قضاياها إلى قضايا نظرية تجريدية وافتراضية، بل إنه اهتم بتقوية الصلة بين الوجدان الإنساني والخالق ليتسنى للإنسان نوع من المعرفة القلبية الروحية تثمر الحقائق الإيمانية والمعارف الوجدانية التي تصل الأرواح بالملإ الأعلى، ولا على غرار مناهج بعض غلاة المتصوفة الذين أسقطوا كليا العقل، بل إنه جعل النظر والتأمل في خلق الله واستخدام ملكة العقل سبيلا لمعرفة الخالق وبدائع صنعه، فجاء منهجا يتكامل فيه الإدراك العقلي من خلال حجج عقلية قريبة من الفطرة ومن خلال توجيه الخطاب العقدي للتأثير في النفوس بعد مخاطبة العقول السليمة، فتكامل بذلك طريقا المعرفة النقلية والمعرفة العقلية في صياغة عقيدة الإنسان المسلم وصياغة وجدانه وسلوكه المعرفة النقلية التي مصدرها الوحي بشقيه الكتاب والسنة، والمعرفة العقلية التي مصدرها الكون بشقيه الطبيعي والبشري هما مصدر المعرفة وفق قاعدة موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ودرء تعارض العقل والنقل. فالعقل يشير، والنقل يحكم، والعقل يضيء والنقل يرشد، ونتأمل آيات الله في كتابه المقروء، وفي صفحة الكون المنظور . وبما أن مفهوم الوسطية يرجع عند نهاية التحليل إلى خاصية التوازن والعدل والاعتدال، فإننا نلاحظ قيام التصور الإسلامي للكون وللحياة وللمجتمع وللإنسان وللعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي وبين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات، وللعلاقات التي ينبغي أن تقوم بين البشر عامة على الوسطية بما تعنيه من عدل وتوازن، فجاء الإسلام تصورا وممارسة يعطي لكل ذي حق حقه ويأمر بالقسط والعدل وعدم الطغيان أو الإفراط والتفريط ومراعاة الميزان (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان). فجاء التصور الإسلامي لجميع مجالات الفكر والسلوك والمجتمع مبنيا على مراعاة التوازن المذكور: توازن بين الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الدين والدولة، وبين الذات والموضوع وبين الفرد والمجموع وبين الفكر والواقع وبين المادية والمثالية وبين المقاصد والوسائل، وبين الثابت والمتغير والقديم والجديد، وبين العقل والنقل وبين الحق والقوة وبين الاجتهاد والتقليد وبين الدين والعلم إلى غير ذلك من الثنائيات. وقد أفاض سيد قطب رحمه الله في بيان خاصية التوازن في كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، فمن أراد التوسع فليرجع إليه.