من الواضح أن العالم عاد بقوة الى عهد محاكم التفتيش المسيحية التي تشكلت بعد سقوط آخر ممالك المسلمين في الأندلس في 25 نوفمبر 1491 بعد توقيع معاهدة الأستسلام. ففي ذلك التاريخ المشؤوم سلم السلطان أبو عبد الله بن الأحمر غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس إلى ملكي قشتالة وآرغون الزوجين فرديناند وإيزابيللا اللذين أطلقت عليهما الكنيسة اسم الملكين الكاثوليكيين، لإخلاصهما الديني ولدورهما في رعاية الكثلكة في إسبانيا، ولا سيما إصدار القوانين المناوئة للإسلام وإنشاء محاكم التفتيش الإسبانية بمباركة الكنيسة وتشجيعها لتستأصل المسلمين من إسبانيا. الاتفاقية التي وقعها ابن الأحمر تضمنت 27 مادة، حددت أولاها ضرورة تسليم غرناطة قبل 25 يناير 1492م للملكين الكاثوليكيين، وتضمنت المواد الأخرى حقوق المسلمين في الأندلس بعد انضوائهم تحت حكم القشتاليين. المسيحيون لم يحترموا بنود هذه المعاهدة وتابعوا استئصال وتعذيب المسلمين حتى أفرغوا شبه الجزيرة الإيبيرية منهم. وقد وصلت بشاعة محاكم التفتيش والحملات ضد المسلمين إلى درجة وضع القوانين الإلزامية للتعذيب والقتل ضد هؤلاء الذين احترموا أتباع الديانات السماوية عندما فتحوا الأندلس في القرن الثامن وبالتحديد في العام 711م، وظلوا يحكمونه لحوالي ثمانية قرون. وبعد عقد من محاربة من تبقى من المسلمين المتمسكين بدينهم صدر في 11 مايو 1611 حكم للقضاء على المتخلفين من المسلمين في بلنسية، يقضي بإعطاء جائزة ستين ليرة لكل من يأتي بمسلم حي وله الحق في استعباده، وثلاثين ليرة لمن يأتي برأس مسلم قتل. ونشطت محاكم التفتيش في غرناطة في ملاحقة المتهمين بالإسلام، إلى أن طلبت بلدية المدينة من الملك طرد كل الموريسكيين وهو الإسم الذي أطلقوه على المسلمين حتى تبقى المملكة نقية من الدم الفاسد. وقد تعسفت محاكم التفتيش في أعمال التعذيب والإعدام، حيث كانت تحرق أحيانا المسلمين المتهمين بأي ذنب مصطنع بصورة جماعية في مواكب الموت، وأحيانا تحرق عائلات بأكملها بأطفالها ونسائها. وكانت تحاكم الموتى فتنبش قبورهم، وفي ذلك الحين أصدر البابا أنوسنت الرابع قراره المعروف بإباحة تعذيب المسلمين، حتى وإن ارتدّوا عن دينهم وأقروا باعتناق المسيحية. وكان التعذيب يجري بلا قواعد، حيث أنشئت محاكم التفتيش لهذا الغرض. حروب صليبية هذه الجرائم وقعت قبل أكثر من خمسة قرون، وتكررت في فترات لاحقة كلما كانت الأمة العربية الأسلامية تضعف وتفقد تضامنها ووحدتها. في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما تكالبت القوى الاستعمارية على جسد هذه الأمة شنت الحروب الاستعمارية تحت أعذار وشعارات شتى. الإمبراطورية الفرنسية شنت حملتها الاستعمارية في الماضي تحت شعار المهمة التمدينية في عالم متخلف، واستخدمت كوقود في هذه الحروب جنودا من العالم -المتخلف- بافريقيا. بريطانيا غزت الشرق الأوسط لتوقف الفوضى والأعمال الأجرامية والأرهابية ضد رعاياها وشركاتها، واستخدمت جنود مستعمراتها التي لم تكن تغرب عنها الشمس. مأساة سقوط فلسطين وتشريد شعبها وتسليمها لليهود نفذت بنفس الأساليب وتحت راية الأممالمتحدة الموصوفة غربيا باداة العالم الحر المتمدن المنتصر على قوى الفاشية والنازية بعد الحرب العالمية الثانية. عدوان 1956 الثلاثي ضد مصر جاء ليس هذه المرة تحت راية الأممالمتحدة لحماية ما سمي الشرعية الدولية من حكومة أممت قناة السويس واستعادت حقوقها على أرضها. وبعدها جاءت حرب 1967 وسقطت القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان وصفق الغرب كل بدرجة حماس مختلفة لإسرائيل التي ردت الى نحره التهديد العربي. وفي بدية عقد الثمانينات احتلت إسرائيل أجزاء واسعة من لبنان ودخلت عاصمته بيروت لتفرض ما وصفته الاستقرار ولتحمي شعب لبنان من الإرهابيين. ولكن قاعدة الديمقراطية الغربية الوحيدة حسب واشنطن في الشرق الأوسط قتلت في مذبحة رهيبة أكثر من 1630 مدني فلسطيني في مخيمي صبرا وشاتيلا، بعد أن صفت المئات من اللبنانيين والفلسطينيين وهي تزحف نحو بيروت. وإلى يومنا هذا لم يحاسب المجرمون بل تولى زعيمهم شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية وأصبح مرحبا به رسميا في بعض العاصم العربية. جرائم لا تنتهي لائحة جرائم الاستعمار الجديد والقديم طويلة وطويلة جدا. العبرة التي نستخلصها الآن في بداية القرن الحادي والعشرين أن الأمة العربية الإسلامية تواجه أخطار الماضي الاستعماري ومحاكم التفتيش الصليبية بأساليب جديدة، تستهدف تدارك ما لم تنجح في تحقيقه الحروب الصليبية الماضية. جاء جورج بوش إلى العراق بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل. ولما لم يجدها قال إنه أتى من أجل نشر الديموقراطية، ليس فقط في العراق، بل في الوطن العربي كله. وحدد محور الشر. ووضع لائحة ثانية يصدر إليها الديموقراطية من بلد المنشأ، هي سوريا والسعودية والسودان وليبيا والمغرب واليمن، وراح الإعلام الأمريكي يردد في جوقة واحدة أغنية الإصلاح وحقوق الإنسان. وأخذ توماس فريدمان يفتش في مناهج التعليم العربية والإسلامية ودفاترها ويقرر ماذا يجب أن يحذف منها لأنه يعمق ما يدعى أمريكيا بثقافة الكراهية. محاكم التفتيش الألفية الثالثة محاكم تفتيش بداية الألفية الثالثة بدأت في العراق تحت راية الأممالمتحدة ولجنة التحقق من أسلحة الدمار الشامل برئاسة السويدى هانس بليكس كبير المفتشين الدوليين، الذي جسد كذب الإدارتين الأمريكية والبريطانية في تقارير وافية مدعومة بالأدلة الدامغة حسبما أكد المحافظون الجدد في حينها. وهكذا بررت واشنطن ولندن حينها للحرب الاستعمارية التي كانت ذروتها سقوط بغداد يوم 9 ابريل 2003. كذبة مشابهة تتجدد الآن ضد سوريا وطبعا ولصقل الصورة تتم التمثيلية في نطاق تحقيق للأمم المتحدة حول اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في القضية السورية استغلت أمريكا وربيبتها إسرائيل، لإضعاف مواقف خصومها أحداث ماض مؤلم حتى تضمن نوعا من الصمت او اللامبالاة، وبالتالي يمكن تسهيل تنفيذ مخططها. بعض العرب غير المحسوبين على ثقافة المارينز الأمريكيين لم ينبروا لتفنيد الأكاذيب المفبركة في دهاليز ورشات القرار السياسي في واشنطن، لأنهم لا يزالون يذكرون أن ساسة دمشق كانوا أحد الأطراف التي حالت دون انتصار قوى اليسار على اليمين اللبناني المدعوم أمريكيا خلال الحرب الأهلية اللبنانية. كما لم ينس هؤلاء تقاطع المصالح الأمريكية السورية في الساحة اللبنانية عام 1975, عندما بدا أن لبنان كله كان على وشك السقوط تحت سيطرة الفلسطينيين وأنصارهم من اللبنانيين. فدخل السوريون لبنان في شكل مكشوف تحت مظلة الامريكيين، رغم احتجاجات الاتحاد السوفياتي آنذاك. تقرير كله ثغرات تقرير لجنة تحقيق الأممالمتحدة في اغتيال الحريري بقيادة القاضي الألماني ديتلف ميليس لا يختلف في شيء عما كان السويدي هانس بليكس يقدمه لتلبية متطلبات تنفيذ مخططات واشنطن ضد العراق. فهو مبني على ادعاءات قوى مناهضة لسوريا وللقوى الوطنية في لبنان وفي مقدمتها حزب الله. التقرير أو صك الاتهام ليس مبنيا على دلائل ومعطيات محققة وثابتة وإنما على تفسيرات لشائعات وما ردده الخصوم وهو يرتكز في الأساس على شهادة شخص ادعى أنه كان يعمل في المخابرات السورية وآخرين من المحسوبين على التيار الماروني المناهض لدمشق والمتعاون مع اسرائيل والولايات المتحدة. تقرير ميليس مليئ بالتناقضات والادعاءات التي لا يمكن أن يأخذ بها أي مدع عام نزيه أو محكمة تحترم نفسها في العالم. فهو يتحدث عن شهود أشباح لم يحددهم بدعوى الخوف على سلامتهم. وعندما يذكر المتهمين أو المشتبه فيهم فإنه يورد أسماء العشرات من كبار الضباط والوزراء في كل من سوريا ولبنان، وكأن الأمر لا يتعلق بمؤامرة اغتيال وإنما بإعلان حرب أومعركة ضخمة أو بحملة انتخابية. شروط مؤامرات الاغتيال في أي عملية اغتيال يراد أن يظل منفذوها مجهولين، يتم الإعداد في دائرة مغلقة لا تضم إلا أشخاصا محدودين جدا، ولكن الألماني ميليس يخالف القاعدة ليرضي مطالب إسرائيل وأمريكا فهو يتهم كل قادة أعمدة الأمن والجيش في سوريا ولبنان تماما كما فعل السويدي بيلكس عندما كان يفتش عن أشياء غير موجودة في العراق. الهدف واضح هو إضعاف النظام في دمشق تمهيدا لتقديم شروط أخرى حتى يكون مستعدا للاستسلام، أو لإعداد الأرضية لعملية غزو جديدة حيث كرر الرئيس بوش في 25 أكتوبر 2005 ما كان قد ردده قبل غزو العراق عن أن العمل العسكري سيبقى الملاذ الأخير أمام أمريكا. المحقق الألماني ورغم تقريره الذي يحدد شخصية المتهمين بقتل الحريري بشكل شبه قاطع، يسقط في فخ فاضح آخر بسبب اضطراره لإرضاء أمريكا التي ترغب في أزمة لا تنتهي مع دمشق حتى يكتمل تحقيق متطلبات مخططها. وهو لذلك يطالب بتمديد عمل لجنته لأشهر أو حتى لسنوات. في العراق لم تنته عمليات التفتيش عن أسلحة الدمار رغم أنها استمرت من سنة 1992 حتى سنة 2003 تاريخ الغزو والاحتلال وذلك لمنع رفع العقوبات واستنزاف قدرة بغداد على المقاومة. ونفس الشيئ تريده أمريكا الآن مع سوريا. وهكذا يقول ميليس في تقريره وتحت البند رقم 20 : على الرغم من القدرات البشرية والتقنية والمالية التي جرى تحريكها لغرض التحقيق، وعلى الرغم من التقدم المعتبر الذي جرى تحقيقه والنتائج التي تم التوصل إليها في الوقت المخصص، فإن التحقيق في عمل إرهابي كهذا له أبعاد دولية متعددة الأوجه وتشعبات يحتاج عادة الى أشهر (إذا لم يكن سنوات) لإنهائه بحيث يمكن إقامة أرضية صلبة لأي محاكمة محتملة لأي أشخاص متهمين. إن من الأهمية القصوى الاستمرار في متابعة المحاكمة داخل لبنان وخارجه. عمل اللجنة هو فقط جزء من عملية أوسع. حتى أثناء كتابة هذا التقرير جرت عملية توقيف مهمة قبل أيام قليلة، ومقابلات الشهود مستمرة وتجري مواصلة تفحص الأدلة المعقدة. ميليس يسهب كثيرا ويطيل بدون مبرر في مناقشة سلسلة من الاتصالات الهاتفية بين متهمين في عملية الاغتيال وفي التحدث عن الشاحنة التي استعملت في العملية. الخطأ الذي لم ينتبه ميليس الى أنه ارتكبه في تقريره أو الذي كتب له على الأغلب في تل أبيب وواشنطن، أنه يتحدث عن أن التخطيط لعملية الاغتيال كان يحتاج لأشهر عدة. ومعنى ذلك وإذا أخذنا بأطروحات المفتش الألماني فإن القيادات السورية واللبنانية المتهمة كانت تخطط لاغتيال الحريري حتى قبل أن يقع الخلاف المروج أنه وقع بينها وبين رئيس وزراء لبنان. وهذا أمر لا يمكن تصديقه. يتجاهل ميليس الشكوك التي أحاطت بستة أشخاص يحملون جوازات أسترالية غادروا بيروت في عجلة بعد ساعات من اغتيال الحريري وكانوا قد اشتروا في لبنان ستة هواتف خلوية وأجروا عدة سيارات وشوهدوا في عدة أماكن من العاصمة اللبنانية التي يعتقد أن الحريري كان يتردد عليها. ويتجاهل ميليس تقارير الأمن اللبناني والمتعاونين معه من المفتشين الألمان والهولنديين واليابانيين عن العثور على أثار لمتفجر تي أن تي على عدد من المقاعد التي استخدمها الأستراليون الستة في رحلة العودة وهم يغادرون بيروت على عجل وبدون حقائب بعد إقامة استغرقت ثلاثة أسابيع، رغم أنه ذكر رسميا في أستراليا أن هؤلاء كانوا في السعودية قبل لبنان لأداء فريضة الحج. يقول ميليس في البند 193 من تقريره: 193 في مقابلة مع لجنة التحقيق الدولية المستقلة، ذكر عدنان عضوم، وزير العدل في وقت التفجير، أنه كان يعتقد أن محققي اللجنة يجب أن يقتنعوا بالتحقيق الذي أجري حتى ذلك الحين وأن يستجوبوا الأستراليين الستة المشتبه بهم عن هدفهم من السفر. وأشار أيضا إلى أنه مقتنع بأنه في ضوء حقيقة أن السيارة المشتبه التي استخدمت في التفجير كانت بمقود على اليمين (كما تستخدم في استراليا)، يجب أن تزيد الشبهات حول هؤلاء الستة المشتبه بهم. وقد اضاف انه يعتقد انه نتيجة للإعلام والضغوط الدينية لم يعط قاضي التحقيق هذه المسألة اهمية كافية؛. ويقول ميليس قبل أن يغلق ملف هؤلاء الأشخاص. 194 وقام محققو لجنة التحقيق الدولية المستقلة بمراجعة نتائج التحقيقين اللبناني والأسترالي بشأن المشتبه بهم الستة، وكما هو محدد في ما يلي، واستنتجوا أنه لا وجود لقاعدة مقنعة بأنهم كانوا متورطين في اغتيال الحريري. وبعد الاقتناع بهذه المراجعة، كان محققو اللجنة مدركين أنه كان هناك 6 بطاقات هاتفية استخدمت في إطار متصل بالاغتيال، وانتهى هذا الاستخدام في وقت التفجير. ويلاحظ بأنه كان هناك 6 مشتبه بهم استراليين، و6 بطاقات هاتفية مشبوهة، وهي صدفة غير معهودة، واعتقدت اللجنة أن مراجعة التحقيقين اللبناني والاسترالي في هذه المسألة ربما تكون حكيمة. 195 وبعد التدقيق في الملف عن قرب، يمكن للجنة أن تحدد النقاط التالية: قدمت السلطات اللبنانية تقريرا طلبت فيه مساعدة الانتربول لتحديد واستجواب المشتبه بهم المعروفين، بما يتلاءم مع البروتوكول القائم. وكان البروتوكول الذي اتبعه الانتربول صحيحا. وتم الاتصال بالسلطات الأسترالية عبر الأنتربول لمتابعة هذا الموضوع. وقامت السلطات الأسترالية بإجراء تحقيق دقيق في هذه المسألة، وقدمت تقريرا بشأن الاكتشافات للسلطات اللبنانية. وعلقت السلطات اللبنانية بشكل كليّ هذا الخيط الحالي من التحقيق بالاستناد الى التقرير المقدم من السلطات الأسترالية. هنا يختم المحقق الألماني ويقول : استنتاج : استنادا الى ما ورد، يجب اعتبار التحقيق الذي قامت به السلطات الاسترالية والاكتشافات التي حصلت عليها، استنتاجا. لم تكن شبهات السيد عضوم موجودة ولم يكن هناك ادلة لدعم هذه الشبهات. ان متابعة هذا الخيط من التحقيق شغل السلطات اللبنانية عن ملاحقة خيوط أخرى من التحقيق.