فليكن لك بالقرآن في رمضان، ورد أو حزب، تستمر به بعد، حتى تكون من أهل الذكر، لا من أهل الهجر، فتحزيب القرآن سنة لكنها مهجورة، كادت تضيع بين أهل الدعوة والالتزام فضلا عن العوام، وقد كان شأن السلف مع القرآن أن يحافظوا على قدر ثابت من القراءة كل يوم يسمونه حزبا أو وردا، أو جزءا يوصلهم إلى ختم القرآن في كل شهر مرة، أو كل اسبوع مرة، أو كل ثلاثة أيام مرة، وأصل السنة في ذلك أحاديث صحيحة، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل). وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم في تحزيب القرآن، فقد استضاف صلى الله عليه وسلم أناسا من وفد ثقيف في قبة له، وكان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء يحدثهم، فأبطأ عليهم ذات ليلة فقالوا: لقد أبطات علينا الليلة، فقال: إنه طرأ علي حزبي من القرآن، فكرهت أن أخرج حتى أتمه ، قال راوي الحديث، وهو أوس بن حذيفة الثقفي :فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تحزب القرآن كي تختمه في سبع، فقالت رضي الله عنها: إني لأقرأ جزئي، أو قالت: سبعي، وأنا جالسة على فراشي أو على سريري. ولكن اهتمام السلف بتلاوة القرآن في رمضان كان له شأن آخر، فقد كان يسمع لهم به في بيوتهم دوي، كدوي النحل، وإذا كان رمضان بتمامه زمانا شريفا للتلاوة والذكر، فإن لياليه أنسب لذلك فهي أرق في الشعور، وأدق في التدبر، ولعل هذا سبب مجيء جبريل عليه السلام ليلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، لكي يدارسه القرآن، كما ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، ويعلق ابن رجب على ذلك الحديث فيقول: دل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا، فإن الليل تقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ القلب واللسان على التدبر، كما قال تعالى: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا واقوم قيلا)(المزمل6). هذا من ناحية الأزمنة، أما من ناحية الأمكنة، فلا شك أن للمساجد فضلها في القراءة، وبخاصة إذا اقرنت التلاوة بالمدارسة والتعلم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده. (اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا ودهاب غمنا وحزننا وذكرنا منه مانسينا، وعلمنا منه ماجهلنا...آمين).