رمضان شهر القرآن، والسلف الصالح كان مأدبتهم، وجعلوه ديدنا في إصلاح حياتهم، لم يتخذوه ظهريا، بل كان نبراسا لهم يضيئ دربهم وقلوبهم، لم يكن قط للتبرك، فتلاوته كانت وسيلة للتبصر والتطبيق، ولم يتخذ للزينة في المكتبات، أو آيات معلقة على الحيطان، أو تعويذات على صدور الفاشلين في الحياة. يقول الله تعالى في محكم كتابه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منك الشهر فليصمه). لقد خص الله جل شأنه شهر رمضان من بين سائر الشهور بإنزال القرآن الكريم فيه، وخصه كذلك بوجوب الصيام شكراً لله على نعمة القرآن، والقرآن الكريم كتاب السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، وهو الحافظ لمن تمسك به من الرذيلة، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، ولتحولوا من حياة الذل والهوان وصاروا به كرماء، فهو يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، فهو يهدي للعبادة الأقوم، والخلق الأقوم، والتربية الأقوم، والمعاملة الأقوم، والموعظة الأقوم والحكم الأقوم، ومن أجل ذلك كان جبريل عليه السلام يدارس الرسول القرآن في رمضان فيزيد جوده وكرمه بالعبادة والصدقة والإحسان قدراً زائداً على سائر الزمان. وكان السلف الصالح من هذه الأمة من الصحابة والتابعين يتدارسون القرآن في رمضان ويقومون به الليل بما يسمى بقيام رمضان، ولهذا كان من الواجب على المسلمين جميعاً أن يتخذوا من القرآن مائدة رحمانية يتحلقون حولها ويحفون بها طلباً لنفحات القرآن وحلاوة ذكره، لأن مجلس القرآن هو مجلس لذكرالله، ومجلس الذكر روضة من رياض الجنة قال عبد الله بن مسعود: (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله وهو النور والشفاء النافع لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه)، وقال بعض السلف الصالح: ما جالس أحد القرآن فقام سالماً: إما له، وإما عليه، وقال أبو موسى الأشعري:(إن هذا القرآن كائن لكم أجراً وكائن عليكم وزراً فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به رياض الجنة ومن اتبعه القرآن قذف به في النار). إن ضرورة القرآن للحياة كضرورة الماء والهواء والغذاء فلا تستقيم حياة الإنسان على هذه الأرض إلا بهذه العناصر الأساسية، وكذلك لا يمكن أن يعرف قيمة هذه النعم المسخرة في الكون إلا بمعرفة القرآن والسير على نهجه الذي رسمه الله تعالى فيه، لأن القرآن الكريم أنزله الله تعالى لينظم سير الإنسان في هذه الحياة، فمثلاً سخر الله للإنسان الشمس لتضيء الكون، وأثناء هذا الضوء اليومي ينادي القرآن الإنسان ويذكره بلقاء ربه، ويوجب عليه عبادات مثل الصلوات المفروضة وهي تختلف من حيث الأوقات بطلوع الشمس وغروبها كما يأمره بالصيام والزكاة والحج وقال سبحانه: (يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج). ويقول الله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً). القرآن يبين الحلال والحرام كما بين الحق سبحانه في القرآن ما أحله للإنسان وما حرمه عليه من نبات وحيوان وغيرهما، والهدف من التحليل والتحريم هو صيانة الإنسان وهدايته إلى ما فيه خيره وصلاحه، وخلق الله الإنسان -بل سائر المخلوقات- ذكراً وأنثى، وجعل المرأة تكمل حياة الرجل والرجل يكمل حياة المرأة، وبين القرآن الصداقة بينهما وكيف يجب أن تكون، وذلك عن طريق الزواج الشرعي الذي هدفه الطمأنينة والسكينة والمودة والرحمة قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون). ثم بين تعالى في القرآن الكريم تنظيم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان كالبيع والشراء والجوار وغيرها. وهكذا يستفيد الصائمون أن الحكمة من إنزال القرآن الكريم هو تنظيم حياة الإنسان على وجه الأرض، حتى تنجح الحياة العامة والخاصة، الدنيوية والأخروية قال تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم). قراءة القرآن وسيلة إلى فهمه وتدبر آياته إن تلاوة كتاب الله عبادة من أجل العبادات، إذ كل حرف يقرؤه المسلم بعشر حسنات، ولكن ليست تلاوة القرآن غاية، وإنما هي وسيلة إلى فهم القرآن وتدبر آياته ثم العمل به وتبليغه، وتلك هي الغاية المطلوبة من قراءة القرآن، ذلك أن القرآن رسالة الله إلى الناس كافة، وإلى المسلمين خاصة، والقاعدة المعروفة في الرسائل هو قراءتها للتوصل إلى فهم ما فيها وما يطلب صاحبها من المرسل إليه. وعلى المسلم أن يتذكر إذا جاءته رسالة من محبوب كريم كم يكون فرحه بها، وإذا جاءته رسالة من حاكم أو رئيس كم يكون تقديره لها حيث يقرؤها بإمعان لينفذ كل ما جاء فيها من أمر ونهي، هذا إذا كانت الرسالة من بشر، فكيف برسالة خالقنا وخالق المخلوقات كلها وملك الملوك وإله العالمين يخاطبنا في رسالته في كل وقت وحين: يا أيها الإنسان، يا بني آدم، يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا، سواء كنت قارئا أو مستمعا، وهذه النداءات كلها تشتمل على أوامر ونواهي، فهل أدينا الأوامر واجتنبنا النواهي كما أمرنا ربنا في رسالته، ونحن نشهد دائماً أننا توصلنا بها وآمنت بها قلوبنا وصادقت عليها بقولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. القرآن الكريم ليس زخارف للبيوت أو نقشا على أبواب المتاجر لقد نسي كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام هذه الشهادة بل أصبحوا يستهزؤون بآيات القرآن حيث وضعوه في موضع غير لائق بكلام الله تعالى، فتحول القرآن عند بعضهم إلى زخرفة البيوت ونقش بالحروف على أبواب المتاجر والسيارات والمقاهي والشوارع، ويقصدون بذلك جلب البركة أو دفع الشر ثم لا يطبقون منه شيئاً فصاحب المتجر يعلق آيات القرآن وهو يتعامل بالربا وينقص الكيل والوزن ويحتكر السلع ويخلط صالحها برديئها، ويحلف بالأيمان الغليظة كاذباً، والقرآن يحرم ذلك ويناقضه تماماً، وتشاهد المرأة المتبرجة العارية تحمل في عنقها صورة مصحف من الذهب وهي مكشوفة الرأس والصدر والذراعين، والقرآن يقول: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، وتشاهد الآيات في السيارات، وأصحابها يحملون الخمر والحشيش وعلبة السجائر وينطلق مع آيات القرآن الكريم، الكل في سيارته، وهذا استهزاء بالقرآن. وتشاهد سيارة نقل المسافرين مكتوباً عليها آيات القرآن كقوله تعالى: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)، (بسم الله مجريها ومرساها)، وركابها يقطعون المسافات القصيرة والطويلة ثم لا يصلون. وأما الحفلات والولائم والمناسبات فالأمر أفظع وأفحش فالقرآن يقرأ والناس يلهون ويلعبون وقد يغنون ويرقصون ويدخنون وتذهب إلى الإدارات فتجد آيات مكتوبة مثل (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) وبين جدران هذه الإدارة أناس يتعاملون بالرشوة والوساطة، أهكذا يكون موقفنا مع القرآن؟ استهزاء ونسيان، وعدم العمل به. إننا في شهر القرآن فلنعد إلى القرآن ولنتدبر آياته ولنفهم معانيه ولنبلغها الناس. عبد الله الشرقاوي خطيب بأحد مساجد الدار البيضاء