مستقبل الإسلام موضوع يشغل الجميع ويؤرق الجميع، يشغل أبناء الإسلام وأعداء الإسلام، يشغل الخائفين عل الإسلام والخائفين منه على السواء، الجميع يتطلع ويترقب ويتساءل:ما مستقبل الإسلام؟ ولعل كثرة التساؤل عن مستقبل الإسلام، وكثرة البحث والتفكير في ذلك، وتعدد الإجابات واختلافها، ليس فقط بتعدد المواقف والتوجهات والجهات، بل بتعدد الأيام والسنوات، إنما يؤكد جانبا مهما من المسألة، وهو أن المستقبل غيب: لا يستطيع أحد أن يحكم عليه ولا على ما سيأتي به إلا بضروب من التخمين والتشوف والتكهن، وفي أحسن الحالات بضروب من التقدير والترجيح والتقريب... ومما يساعد على التقدير والتقريب لمجريات المستقبل ومساراته ما نعلمه من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتخلف (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)(الفتح، 48/23) ومن سنن الله أن ما نزرعه اليوم نحصده غدا، وما نزرعه غدا نحصده بعد غد، قد لا ندري ماذا سنزرع غدا وبعد غد، ولكننا نعرف ماذا سنحصد غدا وبعد غد، لأنه هو ما زرعنه اليوم وسنزرعه غدا، (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم انفسهم)(الحشر 18 19/ 59). ومستقبل الإسلام ما هو إلا حصاد للافعال والتفاعلات، التي نصنعها في حاضرنا وفي أيامنا هذه، ومستقبلنا المتوسط والبعيد هو ما سنصنعه في مستقبلنا القريب، وفي أيامنا المقبلة، بعبارة أخرى، فإن ما نفعله هو ما سنحصده، وما سنفعله هو ما سوف نحصده. إسلام المستقبل لا أحد يجهل أو ينكر أن جزءا كبيرا من واقع الإسلام والمسلمين قد صنعه غير المسلمين ومضادا للمسلمين، وأن جزءا كبيرا أو أكبر من مستقبل الإسلام والمسلمين سيصنعه غير المسلمين ومضادا للمسلمين. لا نستطيع أن نقلل من حجم المخططات والمؤامرات والتأثيرات الأجنبية في مستقبل الإسلام والمسلمين، ولكن دعونا أولا نملأ ما لنا وما علينا، دعونا نفعل ما هو متاح لنا وما هو بأيدينا، وهو كبير وكبير جدا، فهو أكبر مما بأيدي غيرنا، وهو إن أحسنا أداءه وإدارته يؤثر فيما هو بأيدي غيرنا ويحد منه كما وكيفا. إن الإسلام ينبعث ويتجدد ويتقوى عبر العالم كله منذ عقود وعقود، وذلك بالرغم من كيد أعدائه وعجز أبنائه وبالرغم مما يصيبه من تشويه وتشويش من أبنائه وأعدائه، وحتى من بعض دعاته. لندع جانبا ما يصنعه وسيصنعه غيرنا، مهما بلغ من نفعه أو ضرره ومن خيره أو شره، لأنه مهما تمادى حجمه وضغطه وأثره، فإن مستقبلنا أكثر من حاضرنا سيبقى بايدينا نحن أولا، إذا نحن فعلنا ما لنا وما يترتب علينا. إن المسؤولية الأولى في رسم مستقبل الإسلام وصنعه تقع على المسلمين، وتقع أولا على علماء الإسلام ودعاته ومفكريه، فهم الأكثر أهلية وقدرة على تشكيل مستقبل الإسلام من خلال تشكيل سلوك المسلمين، ومن خلال توجيه إسلام المسلمين، إنهم مدعوون إلى مزيد من الاجتهاد والتجديد، وإلى مزيد من التعمق والاستيعاب لقضايا زمانهم ومتطلبات عصرهم واتجاهاته المستقبلية، من أجل إحداث الملاءمة الضرورية والمتوازنة مع مقتضيات الإسلام وأحكامه وحكمته. وذلك بعض ما أعنيه بعبارةإسلام المستقبل. إنني أقول قبل أن يقول لي غيري إن الإسلام في أصله وجوهره ومجمل ما جاء به، هو إسلام واحد، هو إسلام الكتاب والسنة، فليس هناك إسلام للماضي، وإسلام للحاضر، وإسلام للمستقبل، وأقول: إن ثوابت الإسلام العقدية والخلقية والتشريعية، منها ما هو مستمر ومستقر منذ آدم ونوح إلى محمد، عليهم الصلاة والسلام، وهو ماض إلى يوم القيامة، وإن إسلام الماضي البعيد هو نفسه إسلام الماضي القريب، وهو إسلام الحاضر وإسلام المستقبل، ولكني أعرف وأرى رأي العين لا رأي الفكر أن الإسلام حين يتجسد في أشخاص معينين، وفي مذاهب ومدارس معينة، وحين يتنزل على ظروف زمانية ومكانية واجتماعية معينة، فإن صورته تتشكل وتتكيف على أقدار وانماط مختلفة متفاوتة، تزيد وتنقص، تضيق وتتسع، ولكنها على كل حال ليست نسخا متطابقة، ولا مقاسات متساوية مضبوطة، وكل هذه الأنماط والأقدار والتمثلات هي الإسلام، أو من الإسلام، أو إحدى صور الإسلام، أو محسوبة على الإسلام. وهي حينما تتم وتتحقق في إطار علمي ورؤية اجتهادية موزونة متوازنة، بلا إفراط ولا تفريط، فإنها لا شك تعبر عن حيوية الإسلام ومرونته، وتعبر عن طاقته الاستيعابية الواسعة، وهي وجه من وجوه الحكمة والرحمة، ولكن حين تجري بلا ضابط ولا ميزان، ولا حجة ولا برهان، فإنها تكون مجرد ترجمة لأنماط من العقليات والنفسيات، ومن الأهواء والشهوات، ومن الأذواق والعادات، وقد تصبح في النهاية شكلا من أشكال الإفراط والتفريط، أو من التجديف والتحريف. وكل هذا يعطي للإسلام الواحد الذي أنزله الله، صفات وملامح شخصية أو مذهبية أو قومية أو ظرفية وكل ذلك قد يكون حقا وفي نطاق الحق، وقد يكون باطلا وفاسدا، وقد يمتزج فيه هذا وذاك.ومن قديم كانوا يقولون: فلان أسلم وحسن إسلامه، وفلان دينه متين، وفلان دينه رقيق. ومن هنا نستطيع أن نتحدث عن إسلام الصحابة والتابعين، وعن إسلام المتأخرين، وإسلام المعاصرين، وعن إسلام الحاضر وإسلام المستقبل. الاتجاهات السائدة في الموقف من الإسلام ولقد تحدث أستاذنا العلامة يوسف القرضاوي عن صور وتصورات وتوجهات متعددة لإسلام اليوم، فهما وممارسة، سماها الاتجاهات السبعة السائدة اليوم في موقفها من الإسلام(1). من بين هذه الاتجاهات (الاتجاه الاجتراري)، ويمثله بعض الدعاة الذين يفكرون بعقول الأموات من الماضين، وينظرون إلى إشكالات الحياة المعاصرة بعيونهم، وبعض الجماعات الدينية التي تعيش على الماضي وحده ولا تهتم بما يمور به العصر من تيارات، ولا ما يعانيه الواقع من مشكلات. ومن بين هذه الاتجاهات (الاتجاه الاختصاري)،الذي يختصر الإسلام ويختزله في العقيدة والعبادة، فهو يريد الإسلام: عقيدة بلا شريعة، ودعوة بلا دولة، وسلاما بلا جهاد، وحقا بلا قوة وعبادة بلا معاملة، ودينا بلا دنيا.... ومنها أيضا الاتجاه الاشتجاري، وهو الذي يجعل الإسلام في حالة شجار دائم، أصحاب هذا الاتجاه دائما في حالة حرب مع غيرهم، شاهرون سيوفهم على من ليسوا أعداء لهم، فهم يقدمون نموذجهم للإسلام إنه الإسلام المقطب الوجه، العبوس القمطرير، الذي لا يعرف غير العنف في الدعوة، والخشونة في المجادلة، والغلظة في التعامل، والفظاظة في الأسلوب .... ومن هذه الاتجاهات اتجاه الوسطية الإيجابية الذي يسميه أيضا الاتجاه الحضاري، إسلام هذا الاتجاه هو إسلام التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، والرفق لا العنف، والتعارف لا التناكر، والتسامح لا التعصب، والجوهر لا الشكل، والعمل لا الجدل، والعطاء لا الادعاء، والاجتهاد لا التقليد، والتحديد لا الجمود، والانضباط لا التسيب، والوسطية لا الغلو ولا التقصير. من هذا الباب وعلى هذا الأساس أعني ما أعنيه بعبارة إسلام المستقبل، الذي من خلاله نضمن مستقبل الإسلام، على نحو أفضل وأمثل، ومن خلاله نستوعب طبيعة زماننا وأحوال عصرنا، ما لها وما عليها، وما يمكن فيها وما لا يمكن، وما يصلح لكل داء من دواء، وما يلزم تقديمه على غيره لأولويته الظرفية أو الدائمة... 1 النور الحضاري للأمة المسلمة في عالم الغد لنخبة من الباحثين والكتاب نشر وزارة الأوقاف القطرية 1421/ ,2000 بحث الدكتور يوسف القرضاوي بعنوان:حاجة البشرية إلى الرسالة الحضارية لامتنا ص: 707 وما بعدها.