تهل علينا ذكرى بدر مضمخة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لن تعبد في الأرض بعد اليوم، وبقلة قليلة من المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأثابهم بقوته وأيدهم نصره. ونحن نعيش واقعا مكونا من أعداد بشرية تفوق المليار من البشر، تغطي ربع مساحة العالم تقريبا، وتمتلك مقومات اقتصادية ممتازة، لكنها لا تحسن استخدامها، بسبب عوامل متعددة تجمعها غياب تفعيل الإيمان في العمل والسلوك، الأمر الذي جعلها تتخلف عن ركب التقدم، وتسقط في مهاوي الغثائية والهوان. هذه الأعداد التي يحز في النفس تصوير حالها كقطيع فقد قائده، فتخبط يمينا وشمالا، لا يدري الوجهة التي تخرجه من أمواج الظلام المطبقة عليه من كل جانب، دون أن تدري أن الإنسان هو قاعدة كل انطلاق حضاري، وصانع كل تقدم، وأن أي تغيير أو خروج من هذه الأمواج لن يتم إلا بتزوده بوسائل السباحة فيها، ودون أن تعلم أن الميزان الصحيح الذي يمكن أن يقاس به رقي وتقدم الحضارات، هو موقع الإنسان فيها، وتصورها عنه، وطبيعة القيم التي يلتزم بها ومدى ممارسته لإنسانيته، وأخذه بالأسباب التي توصله إلى نتائجها، المتمثلة في عمارة الأرض، وحمل أمانة الاستخلاف وتحقيق العبودية، التي خلق من أجلها. تهب رياح النصر من بدر في هذه الأيام المباركة تحمل خوفا وخشية من الدخول في دائرة الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين، لأننا لم نستطع بعد جعل الإنسان مدار الحركة التغييرية ومحورها، كما فعل أصحاب بدر، ولم نتعلم بعد كيفية التعامل مع الكون والحياة والأخذ بالسنن، ولأننا نتجاهل أن درجات النصر في أي مجال بالنسبة لنا ينطلق من كم المساحة، التي نفردها للقرآن الكريم في أنفسنا، ومدى استجابتنا لمقومات الإحياء فيه. ولذلك استطاعت الحضارات الأخرى السيطرة على واقعنا بامتلاكها رصيداً مادياً ضخماً، الناتج عن الأخذ بالسنن، لأن من أخذ بها أوصلته إلى النتيجة بغض النظرعن دينه. ومن وضع المفتاح الصحيح في القفل، وأداره بالشكل الصحيح فُتح له الباب. فالله وضع للبشر سنناً من حفظها حفظته ومن ضيعها ضيعته. والقلة القليلة التي انتصرت على الكثرة الكثيرة في بدرأدركت أن العمل المقرون بالإخلاص والإيمان يؤدي لا محالة إلى النصر والتوفيق، كما أدركت بعد ذلك في أحد أن النصرالذي مصدره الله عزوجل، لا يكفيه الإيمان السلبي، ولن يأتي بالانحراف عن أوامره تعالى. وفي خضم واقعنا المزري، وبعد ثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا، يجب أن ندرك أن معرفة سنن الله في النفس والمجتمعات والتفاعل معها عامل رئيس للخروج مما نعانيه و للوصول إلى الشهود الحضاري . كما يجب أن نعي أن الأيام لا تتداول بالتحلل من ملامح هويتنا وإخفاء جذورنا، أو بالنفي والإقصاء، وإنما بمقدار التحرك من داخل أي حضارة لتغيير وجهتها، إذ لم تعد الحضارة الإنسانية حكراً على شعب أو أمة، وإنما هي مشترك إنساني وإرث عام وتراكم معرفي، والقيم الصالحة هي الأقدر على تحديد وجهتها. وما دمنا قد أدخلنا قسرا إلى عصر العولمة وانفتاح الثقافات وذوبان الهويات، فيمكن أن نغيث أنفسنا ونعتبر بتاريخنا ونستثمر بذور قيمنا، فنغرسها في وجودنا لتنبت ثمرات نصدرها للعالم الذي يعاني فراغاً روحياً كبيراً، ويتطلع لاستعادة إنسانية الإنسان. ولن نتمكن من ذلك إلا إذا قدمنا القدوة من أنفسنا، وأثبتنا أن حضارتنا الإسلامية إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، تنظر إلى الناس بمقياس واحد لا تفسده القومية أو الجنس أو اللون، أو الغنى أو الفقر(إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وتظل بدر شاهدة على عظمة هذا الدين، الذي يعز من يعزه ويذل من انحرف عنه، وتقدم أروع الأمثلة على البذل والعطاء والتضحية المؤدية إلى النصر بإذن الله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم).