الثمار الأولى لفوز الرئيس الأمريكي جورج بوش بولاية ثانية في الانتخابات الأمريكية بدأت بعد أقل من أسبوع على عودة حزبه إلى البيت الأبيض، وذلك من خلال تنفيذ التهديدات التي كانت القوات الغازية في العراق تطلقها قبل الانتخابات باقتحام مدينة الفلوجة العراقية في حال عدم استسلام رجال المقاومة فيها . وقد بدأت قوات التحالف منذ يوم أول أمس في شن هجوم قوي على المدينة التي غادرها أزيد من عشرين ألفا من سكانها، خوفا من القصف الأمريكي للمدنيين، وخشية تكرار ما حدث في شهر أبريل الماضي عندما دمرت القوات الأمريكية والبريطانية مباني المدينة على رؤوس ساكنيها، وذلك بعد فشل المفاوضات بين وفد المدينة من جانب والقوات الأمريكية وممثلي الحكومة العراقية المؤقتة من جانب آخر. بوش وامتحان المصداقية قبل أسبوع تقريبا كان احتمال اقتحام مدينة الفلوجة مستبعدا، بسبب قرب موعد الانتخابات العراقية المقرر إجراؤها في شهر يناير القادم، حتى تتجنب الولاياتالمتحدة والحكومة الانتقالية انقسام العراقيين بشأنها، وتأكد ذلك للمراقبين بعد تأكيد الرئيس العراقي المؤقت إياد علاوي خلال زيارته لدول الخليج بأنه يعارض غزو الفلوجة، وتهديد المكونات السياسية والدينية في هذه الأخيرة بتحويل العراق إلى محرقة حقيقية في حال تنفيذ القوات الأمريكية لتهديداتها. لكن فوز بوش بولاية رئاسية ثانية ربما كان وراء تغيير خطة المواجهة في الفلوجة مع المقاومة التي ظهر أنها استوعبت جيدا دروس عملية الغزو الأخيرة في أبريل الماضي. فقد فهم الحزب الجمهوري عبر إعادة تجديد ثقة الأمريكيين في بوش شيكا على بياض فيما يتعلق بسياساته الخارجية، وخاصة في العراق المحتل، كما أن بوش حرص من خلال عملية الاقتحام إبلاغ الأمريكيين والعالم بأن عودته أو بقاءه في البيت الأبيض بالأصح رسالة مفادها أنه سيستمر في تنفيذ ما بدأه في ولايته الثانية، خاصة في العراق الذي هو بمثابة الحلبة الحقيقية التي يجري فيها امتحان مصداقية الرئيس الأمريكي في الداخل والخارج، ونفس الحلبة التي واجه فيها خصمه الديمقراطي جون كيري في حملته الانتخابية. الإدارة الأمريكية لم تعر أي اهتمام لتحذيرات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الذي وجه رسالة قبل أسبوع إلى كل من واشنطن ولندن وبغداد يحذر فيها من اقتحام الفلوجة، مؤكدا على أن ذلك قد يقود إلى تعميم السخط في صفوف العراقيين من الاحتلال، وهو ما يكشف بأن الإدارة الأمريكيةالجديدة القديمة تريد من الآن الاستمرار في لعبة تهميش المنظمة الأممية مثلما حدث أثناء غزو العراق في العام الماضي، بمثل ما تكشف عملية الغزو المهمة الحقيقية للحكومة العراقية المؤقتة التي تراجع رئيسها عن وعده بعدم اقتحام المدينة، وهي الرضوخ للإملاءات الأمريكية، ولعب دور المساند لها، الأمر الذي قاد الحزب الإسلامي إلى الإعلان أول أمس بأن مشاركته في الحكومة العراقية لم تعد مبررة بعد عملية الاقتحام. فتوى ودعوات للجهاد ويأتي اقتحام الفلوجة في ظل معلومات تناقلتها تقارير أمريكية مختلفة عن اختفاء عدة أسلحة وذخائر، ربما قد تكون وصلت إلى أيدي رجال المقاومة في الفلوجة، خاصة وأن تلك التقارير تحدثت عن أن الأسلحة المختفية لم تخرج من العراق. فقبل أيام قال تقرير أمريكي أن 380 طنا من الأسلحة والمتفجيرات اختفت من مستودع القعقاع في العاصمة العراقية، وفي اليومين الماضيين قالت تقارير أمريكية أخرى أن 4000 صاروخ أرض جو اختفت من ترسانة النظام العراقي السابق، وهي من الأسلحة الخفيفة التي تفضل المقاومة استخدامها لسهولة نقلها واستعمالها. ويؤشر ذلك، بحسب تلك التقارير إلى أن القتال في الفلوجة سيكون ضاريا خلال الأسابيع المقبلة. لكن هذا ليس سوى مؤشر واحد. فقد أصبحت الفلوجة، ومنذ المواجهات بين قوات الاحتلال والمقاومة العراقية بها في شهر أبريل الماضي، رمزا لصمود المقاومة أمام خطط الاحتلال، الأمر الذي دفع العديد من المراجع الدينية السنية العراقية إلى الالتفاف حولها باعتبارها آخر قلعة لمقاومة الاحتلال بعد تراجع المقاومة الشيعية ممثلة في جماعة مقتدى الصدر في مدينة الصدر، إثر توصل هذه الأخيرة إلى اتفاق مع الحكومة العراقية وقوات الاحتلال نتج عنه حل جيش المهدي، بل إن المراجع الشيعية العراقية تلتف الآن حول مشروع الحكومة الانتقالية والاحتلال المتعلق بتنظيم الانتخابات، وانخرطت في مطالبة جميع العراقيين بالمشاركة المكثفة، متوعدة المقاطعين لها بعذاب النار، وفي ظل كل هذه التطورات يزداد الاقتناع بأن الفلوجة هي آخر القلاع التي سوف تجري بها المعركة القادمة مع قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني وجيش الحكومة الموالية له. فقد حذرت هيئة علماء المسلمين من غزو المدينة، مهددة بالأسوإ في حال تنفيذ القوات المحتلة لتهديداتها، وأصدرت الهيئات الدينية السنية في العراق بيانا مشتركا تحذر فيه بتحويل العراق كله إلى ساحة مواجهة مفتوحة مع قوات الاحتلال في حال ما إذا أقدمت هذه الأخيرة على اقتحام الفلوجة وقصف سكانها. ولم يقتصر رد الفعل على الساحة السياسية والدينية الداخلية في العراق، بل إن عددا من العلماء في المملكة العربية السعودية أصدروا فتوى قبل أقل من أسبوع يدعون فيها إلى دعم الجهاد في العراق، ويحثون فيها على دعمالفلوجة الصامدة المنصورة، مما يعتبر مؤشرا على اتساع ساحة المواجهة في العراق، وتحويله إلى أفغانستان ثانية أثناء الغزو الروسي في نهاية السبعينات من القرن الماضي، مع الإشارة هنا إلى أن فتوى دعم الجهاد الأفغاني في تلك الفترة خرجت من السعودية نفسها أيضا. إدريس الكنبوري