الحركة وما في معناها من ألفاظ استخدمها القرآن الكريم مثل: التغير والتطور، والتحول والتبدل، والتداول والتقلب، والانقلاب والتدافع سنة من سنن الله في الأكوان والمجتمعات تقوم بوظيفة حفظهما من الفساد مثلما يحفظ المد والجزر البحار والمياه عامة من التعفن وانقلاب وظيفتها من عامل إصلاح ونفع عميم إلى عامل هلاك وفساد ذميم. ولقد قدم القرآن صورة عن كون وعن تاريخ بشر في حالة حركة لا تهدأ، أمم تدركها فضائل بأثر من نبوة أو حكمة فتصعد على ركح التاريخ وتسود بما غلب عليها من عدل ونشاط ثم لا تلبث أن يتخللها الفساد والظلم فإذا لم تدركها مقاومة ناجعة فاستفحلا حتى غلبا عليها سلط الله عليها من يدفعها عنوة فيزيحها عن مقام الإمامة والغلبة لتحل أمة أخرى محلها قد تهيأت بالفضائل وخصائص القوة لتتبوأ موقع الزعامة وهكذا دواليك. وهذه سحائب لواقح بالخير تسوقها الرياح فتنزل مدرارا على أرض عطشى جدباء فتهتز وتربو نباتا طريا لا يلبث أن يزهو ويزهر ويؤتي ثماره ثم يصفرّ فتراه حطاما تذروه الرياح. وتلك نطفة يحركها تجاذب بين جنسين فيكون لها لقاء خصيب لتمضي إثره في مسار معلوم إلى مستقر لها في قرار مكين في رحم أنثى، فتنخرط في خطة مرسومة لتتحول علقة ثم مضغة فعظاما تكسى لحما، ثم تنفخ فيها الروح، حتى إذا استكملت نماءها تحركت صوب عالم الناس محاطة وهي الواهنة بفيوض من عواطف الحب والشفقة ترعاها السنين الطوال حتى تبلغ أشدها، وتنهض بدورها، ثم من بعد قوة يدب فيها الضعف ولا يزال بها حتى يأذن الخلاق بانتقالها إلى الحياة البرزخية في انتظار يوم الحساب. وعبادات الإسلام ذاتها قد جمعت بين التأمل الفكري والاستغراق الروحي وبين حركة الجسد في المكان: فركن الصلاة الأول النية بمعنى تجريد القصد لله. وجوهرها الدعاء والتضرع للخلاق ولي النعم، وما تبقّى فحركة، من تلاوة وركوع وسجود وقيام وجلوس وتشهد وسلام كلها حركات للجسم مع الحرص على دوام الشهود في الحضرة العلية. وهكذا الأمر في بقية فروض الديانة التي جمعت بين العبادة المادية والعبادة الروحية ويتجلى ذلك أوضح ما يتجلى في الحج حيث تبلغ الحركة حد الهرولة، وحيث يفرض على المؤمن ولو مرة واحدة في العمر أن يتمرد على السكون والقرار في المكان والإخلاد إليه، فيخرج وجوبا من بلده ومألوفاته قاطعا البراري والبحار أو الأجواء ليطوف ليتحرك حول البيت العتيق ويسعى بين الصفا والمروة ويظل متنقلا من مكان إلى آخر طوال الحج حتى عودته إلى بلاده بما جعل السير في الأرض والسياحة فيها فريضة من فرائض الإسلام لها مقاصد دينية من مثل التوبة والإنابة عودا بالفطرة وبالدين إلى أصلهما، كما له غايات إنسانية مثل التعارف وهو مقصد من مقاصد الخلق وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. وله مقاصد معرفية علمية منها التأمل في ملكوت الله والتعرف على أحوال الأمم الحاضرة والغابرة. وله مقاصد تجارية ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، فاسعوا في مناكبها وكلوا من رزقه. وله مقاصد خلقية دينية منها الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأمم البائدة وما حل بها من سخط الله بسبب الكفر والظلم. ولكل ذلك تكررت في القرآن الدعوة الملحاحة إلى السير في الأرض قل سيروا في الأرض، أفلم يسيروا في الأرض. وتيسيرا لهذا المقصد يسر الشارع الحكيم على المستجيبين لندائه إلى السفر والتمرد على السجن في المكان طلبا لتجارة أو سياحة أو لعلم ودعوة، فسنّ لهم تخفيف العبادات بالتشطير والجمع كالصلوات أو بإرجائها جملة مثل الصوم. ولقد أثمرت هذه الدعوة في أجيال الأمة الأولى ثمارا عظيما فكان من أبناء الصحراء من جيل الصحابة من سار في الأرض مجاهدا داعيا حتى دفن تحت جدار القسطنطينية، ومنهم من سار فاتحا أو تاجرا حتى أدركته المنية تحت جدار الصين. ولا تكاد تخلو دار للإسلام اليوم من ضريح لصحابي أو صحابية حتى جزر البحر وصلها ابن الصحراء أو بنت الصحراء مثل الصحابية أم حرام دفينة جزيرة قبرص. فكانت الفتوحات ثمرة من ثمار هذه الدعوة إلى الحركة والسير في الأرض تمردا على سجن المكان والإخلاد إلى الأرض، وكان من ذلك الرحالون العظام الذين كانوا الإرهاص لحركة الاكتشافات التي تابعها الرواد الأروبيون كشفا لمجاهل المعمورة والتي أفضت إلى كشف الأميركتين وأستراليا ونيوزيلندا ومجاهل أفريقيا. والشواهد كثيرة على أن المسلمين كانوا الرواد الأول ومؤذني الفجر الأول للحضارة المعاصرة التي بدأت بالاكتشافات الجغرافية التي مكنت الغربيين نهاية من الاستيلاء على ثروات قارات بكر راكموها فانطلقت منها الثورة الصناعية والاقتصاد الرأسمالي. ولقد كان من بين الرواد العرب الرحالين الإدريسي وابن بطوطة وابن فضالة الذي دون رحلته إلى بلاد الشمال الأروبي فكانت وقائع رحلته العجيبة كما دونها أهم الوثائق المؤرخة لتك العصور وأنماط حياة أهلها القرن العاشر. وكان من ثمار الدعوة للحركة والسير في الأرض توسع حركة التجارة وصناعة السفن وخوض لجج البحر وتطوير الخرائط الجغرافية وأدوات ضبط المكان والاتجاه. وبأثر ذلك ظلت لقرون طويلة حتى القرن الثامن عشر أساطيل المسلمين مسيطرة على خطوط التجارة العالمية برا وبحرا ومنها التجارة في البحر المتوسط مثلا. وأمكن للتجار المسلمين أن يمتدوا إلى سواحل أفريقيا وإلى شرق آسيا حتى جزر جاوة وسومطرة واستوطنوا تلك البلاد وتزوجوا ونشروا دينهم ولغتهم وحضارتهم، فكان أثر التجارة في نشر الإسلام رابيا عن أثر الجيوش بل إن ما فتحته التجارة للإسلام من بلاد لم يتزحزح عنها بينما ما فتحته الجيوش فإنه بمجرد ما أصابها الضعف تراجع الإسلام عنها الأندلس. كل ذلك يجعل الحركة في الأكوان والأنفس والتاريخ أساس الحضارة وجوهرها الأساسي مقابل السكون والخمول والانحباس في المكان وفي الفكر أي التقليد وعبادة الأسلاف أو موروثاتهم وتأليه الحكام بتجريم نقدهم بديلا عما فرضه الإسلام من مراقبتهم وأمرهم ونهيهم وفرض تغيير منكراتهم عليهم لإصلاحهم، وصرفهم من الخدمة إذا هم استكبروا وعتوا باعتبار ذلك ليس حقا على المسلم بل واجب فالأمة هي المستخلفة وصاحبة السلطة نيابة عن الله وما الحاكم إلا أجير عندها يعمل لها بعقد وشروط إذا تنكب عنها وجبت إعادته إلى جادة الحق أو إنهاء خدمته. ومما أثنى به النبي عليه السلام على الروم أنهم أكثر الناس رفضا لظلم الملوك حديث مسلم فالانحباس في المكان مظهر وسبب تخلف مقابل السير في الأرض مظهر وسبب تحضر. ومن ذلك خصف ابن الخطاب بدرته رجلا ملازما للمسجد بعد أن علم منه أن أخاه يسعى في الأرض عليه آمرا له أن يتحرك سعيا على نفسه. ومن التخلف الإعجاب المفرط بالذات إلى حد رفض كل خير ونافع نقتبسه من غيرنا وإن يكن عدوا، كل ذلك من معاني التخلف والانحطاط مقابل التحضر باعتباره فضاء مفتوحا من العدل والحرية والبحث الناصب عن أي حكمة واقتناصها وتبادلها فتجتذب إليه العقول الكبيرة والكفاءات المتميزة. إن الخمول والانحباس في المكان دوران حول الذات ودروشة وسعي لاهث نحو فناء الذات بدل تأكيدها، جمودا في الفكر وجبرا في العقيدة وتقليدا في الفقه وزخارف لفظية في الأدب واستبدادا في السياسة. . تلك معادلة للانحطاط قد استحكمت خيوط ظلماتها، وهو ما آلت إليه أمة الإسلام منذ أزيد من خمسة قرون غلب عليها الخمول وتباطؤ الحركة بينما العالم يضج بها من حولنا، وذلك بعد عصور زاهرة بالإبداع الحضاري مفعمة بالحركة في المكان والحرية في الفكر. تلك هي صورة المشهد العام للتخلف والانحطاط. أما الأسباب باختصار فمتعددة منها فساد المناخ الفكري بما انصب في المورد الإسلامي الدفاق بالحركة وحرية الإرادة والمبادرة والتوازن بين مختلف أبعاد الشخصية الإسلامية، الأبعاد المادية والروحية والاجتماعية والإنسانية إن لبدنك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حقه حقه. موارد انصبت في مجرى من روافد ثقافات تقدس السكون واحتقار الجسد والعمل اليدوي. ثقافة يتحرك فيها الفكر إذا تحرك حركة ذاتية من خلال أنسجة قياسية مجردة عن المكان والزمان، بعيدا عن التفاعل مع الواقع الجزئي المتحرك. نموذج حضاري آخر يشيد بالغوص في عوالم الروح ويجعل حركة الفكر ضمن عوالم وأقيسه مجردة عن الواقع المشخص في تصادم مع منطق القرآن التجريبي الذي يوجه العقل إلى الملاحظة الدائمة والتأمل في جزئيات الواقع المشخص لاكتشاف سننه والاعتبار به وتسخيره. ثقافة أخرى تجعل الطريق إلى الله وعبادته والتقرب إليه سبيله الإعراض عن تيار الحياة المتدفق ونقل المريد إلى عوالم خيالية حتى يفنى عن ذاته ويصبح قابلا كل صورة، حتى ما يبقى فرق بين خير وشر وجمال وقبح وعابد ومعبود وموسى وفرعون فالكل واحد، كما عبرت عنه فلسفة القطب الأكبر ابن عربي الذي يتحول في زمن الحرب على الإسلام هذا أهم ملهمي أساطين العلمانية. ولقد تدعم هذا التوجه حتى غدا ثقافة عامة للمسلمين بدواعي رد الفعل على الإغراق في عوالم اللذة والمجون والترف الفاجر التي انطبعت بها حياة الملوك الظلمة وحواشيهم وملئهم من أهل المال وأهل الفن والإدارة متأثرين بنماذج الحكم الإمبراطوري الفارسي الهالك الذي ورثوا عنه وهم الحديثو عهد ببداوة رجال وأساليب إدارته حسبوا وأنماط حياة ملوكه، وحسبوا أنهم يحتوونها فاحتوتهم وأعاد كتّابها صياغة الإسلام بما يضفي الشرعية على حكمهم الإطلإقي وانفصالهم عن الرعية واستئثارهم بالحكم والثروة دونها، فبحثت الجماهير المقهورة عن فضاءات دافئة للتطهر والهروب فكان الأغنوص بعوالمه الروحية المموهة. كما كان هذا الانسحاب من التدافع وصراع الحياة صوب التهويم على غير هدى في عوالم الروح ضربا من رد الفعل أيضا ضد المدرسة العقلية بزعامة المعتزلة التي بدافع الذب عن الدين باستخدام منطق الخصوم حولت الدين إلى مماحكات جدلية كلامية نالت بها الحظوة في النهاية لدى أصحاب السلطان تضرب خصومها بسوطهم وتغريهم بالتسلط على معتقدات الناس لتفرض مجادلاتها دينا ملزما لهم، وبذلك قدمت مثلا سيئا جدا للمذهب العقلي عبأ الجماهير ضده وهيأ ظروف الانقلاب عليه، بما مثل دعما آخر لدفع الجماهير إلى كهوف الأغنوص والخرافة. ولقد مثل انهيار بغداد تحت سنابك التتار انتصارا ساحقا للأغنوص على كل ما هو حركة وعقل إذ قدم نفسه ملاذا لجماهير حائرة يمضها الأسى حتى ليكاد يمزقها ويدفعها إلى الانتحار، فكانت تلك العوالم جاهزة بفكرها وحضراتها لتقدم السلم الذي يعرج به المسلم من هذا العالم الشقي إلى أجواء البهجة الروحية بمثل ما يفعل المخدر. وإذن فالاستبداد الداخلي ومواريث هابطة لحضارات بائدة أسهما إلى حد بعيد إما في إخماد الحركة في مجتمعات الإسلام أو الانحراف بها عن موجهات الإسلام وهو ما جعل المجتمعات الإسلامية لعصور مديدة أراضي منخفضة ومهبطا لمختلف الغزاة حتى إذا دبت الحركة فيها عبر إصلاح عقدي أعاد الاعتبار لإرادة المسلم الحرة ولعقله وفعله في التاريخ ولآليات الاجتهاد والجهاد أي للحركة فبدأت رحلة الإسلام مجددا للقاء مع التاريخ وليفعل فيه تأسيسا لدورة حضارية إسلامية جديدة. ولا تزال حركة الإصلاح الإسلامي تعمل جاهدة على تحرير المزيد من الطاقات المعطلة في الإسلام وتراثه، شانة حربا على أكثر من جبهة: جبهة الانحطاط وجبهة التغريب وجبهة الاستبداد. والمعركة متواصلة في الإسلام بين قوى شد إلى الوراء وقوى دفع إلى الأمام، بين الحركة والسكون، وبين قوى الاستضعاف وقوى الاستكبار، وثالثة بين تجديد أصيل يتمسك بثوابت الإسلام مع القبول باقتباس كل ما ثبت صحة ونفعا من حضارة العصر وتجربته وبين تيارات تزعم أنها تجدد من داخل الإسلام ولكنها لا تنطلق عند التحقيق من داخله ولا تتحرك على أرضيته بل تنطلق من خارجه لتفرض عليه منطقا غير منطقه ومناهج غير مناهجه بمثل ما يفعل قوم ينتسبون إلى الإسلام ويتحدثون باسمه بل يدعون فيه علما يفوق مالكا والشافعي وجعفر الصادق ويعملون فيه تسفيها، بينما لا يعرف لهم موقع في مسجد ولا شهد لهم مؤمن بتقوى أمثال من جمعهم نادي للفكر والتجديد والاجتهاد تولت دوائر أميركية تمويله وأحيانا ينشطون تحت مسمى اللبراليين العرب وهم في محصلة عملهم يبغون في أحسن أحوالهم تمسيح الإسلام وإفراغه من شريعته التي جاءت لتنظم حياة الناس وسحب الدين جملة من العام إلى الخاص حيث يكون لكل إسلام يفصله على مقاسه. وبكلمة أخرى يبغون علمنة الإسلام بزعم القيام فيه بحركة إصلاحية على غرار ما فعل بالمسيحية حتى أقصيت من المجال العام، وحتى في المجال الخاص انتهى فتح باب الاجتهاد دون تقيد بضوابط الاجتهاد ومنها لا اجتهاد مع النص انتهى الأمر إلى ما تتناقله وسائل الإعلام هذه الأيام عن قساوسة شذاذ وعن قس يعقد قرانه على آخر على أساس أن المسيحية حب، وهذا نوع من أنواعه؟ وعن قس لا يؤمن باللهّ ولم لا؟ ما تم الانفكاك من صرامة منطق اللغة وبقية أصول الاجتهاد. مع أن الجدير بالتذكير أن الإصلاح الديني في أوروبا جاء ليعيد المسيحية إلى نصوصها الأصلية مستهدفا المؤسسة الكنسية التي احتوت الدين وتماهت معه فكان الإصلاح ثورة تحرير للعقول من هذا الأسر بينما ليس في الإسلام كنيسة ولا رجال دين يحتكرون النطق باسمه. غير أن حركة التجديد الإسلامي عبر كل العصور كانت هذه مهمتها: العود بالدين إلى أصله وتحريره مما علاه من غبار التاريخ وانتحالات المبطلين والمبتدعين وتسريح قنوات التفاعل بينه وبين ما استجد من معارف يتم احتواؤها ومن مشكلات يبحث لها عن حلول. وعبر إحياء وتفعيل آليات الاجتهاد باعتباره حركة تجدّد الدين وتفتح قنوات الحوار الدائم بينه وبين الواقع المتحرك بما يكفل استمرار تلك الحركة في كل اتجاهاتها منفعلة بثوابت الدين ومقاصده مصطبغة بصبغته لا تفسق عنها أبدا صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة