بمجرد ما انسحبت القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، توالت الضغوط الأمريكية تجاه الدول العربية من أجل فتح قنوات ديبلوماسية وتطبيع العلاقات مع إسرائيل. فوزيرالخارجية الإسرائيلي سلفان شالوم التقى مجموعة من وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية على هامش اللقاء السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة ، كما أن أرييل شارون التقى بوفود من دول عربية وإسلامية. هنا نطرح مجموعة من الأسئلة: هل الانسحاب الإسرائيلي من غزة يشرعن موسم التطبيع من منظور الجانب الرسمي في الدول العربية والإسلامية؟ ولماذا هاته الموجات من التطبيع الإسرائيلي العربي التي تجاوزت الجوانب الديبلوماسية لتطال الميادين الثقافية والمدنية والاقتصادية؟ ثم ما هي آفاق هاته الحركية التطبيعية وما هي موقف جبهة الرفض في سبيل وقف موجات التطبيع المتصاعدة؟ هاته الأسئلة وأخرى طرحناها على الباحث سعد الركراكي، أستاذ العلاقات الدولية بكلية الحقوق بسلا، وكان معه الحوار التالي: يلاحظ في الآونة الأخيرة، لاسيما بعد الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة، تصاعد موجات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل. كيف تقرؤون سياق هاته الموجة من التطبيع؟ وهل من تفسير لتسارع خطوات التطبيع بين الدول العربية والإسلامية مع الكيان الصهيوني في هاته اللحظة بالذات؟ التطبيع بين الدول العربية والإسلامية والكيان الصهيوني له تاريخ، لذلك فلا يمكن فصل المحاولات الجارية حاليا على أكثر من صعيد عن البعد التاريخي للصراع العربي الإسرائيلي. كما لا يجب أن ننسى أن بعض الدول العربية والإسلامية تقيم علاقات ديبلوماسية رسمية مع الكيان الصهيوني ومنذ مدة، ثم إن هناك دولا أخرى ترتبط مع إسرائيل بعلاقات سرية في ظاهرها، لكن في كثير من الأحيان ظلت العلاقات بينها وبين الدولة العبرية تتميز بمستويات عالية من التنسيق. إذن فسياق التطبيع الحالي لا يمكن فصله عن مظاهر التطبيع السابقة التي ميزت الصراع العربي الإسرائيلي في مختلف أطواره. إضافة إلى ذلك، فإن موجات التطبيع الحالية تأتي بعد انسحاب الكثير من الدول العربية والإسلامية من حلبة الصراع حول الحقوق العربية والفلسطينية، وهو ما أدى في مرحلة إلى تحويل قضية فلسطين من قضية عربية وإسلامية إلى قضية تهم الفلسطينيين وحدهم. والكل يتذكر ظروف اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ثم المفاوضات التي أنتجت اتفاقات أوسلو وما بعدها. بمعنى آخر، لقد أدى هذا المسلسل التنازلي بالأنظمة العربية والإسلامية إلى اعتبار المسألة الفلسطينية قضية الشعب الفلسطيني وحده، وعليه يعود أمر تدبير الملف مع الكيان الصهيوني. هذا الوضع ساهم في استفراد الصهاينة بالطرف الفلسطيني في غياب تساوي ميزان القوى، وأدى إلى النتائج الكارثية التي نعيشها الآن. وأخيرا، ومع الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة، قام التحالف الأمريكي الصهيوني بالتسويق لفكرة مفادها أن القضية الفلسطينية قد انتهت، وما بقي من مبرر أمام الأنظمة العربية سوى التطبيع الرسمي مع الصهاينة في أفق التعايش السلمي بين شعوب المنطقة. هل يمكن القول إن الحالة العربية الإسلامية كانت مهيأة لحالات التطبيع المتزايدة مع الكيان الصهيوني، خاصة وأن موجات التطبيع تجاوزت الجانب الديبلوماسي لتطال الميادين الاقتصادية وبعض الأنشطة الثقافية والمدنية؟ الحالة العربية تمت تهيئتها منذ زمن وعبر مراحل من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. فالأنظمة العربية والإسلامية قدمت استقالتها من أمر الصراع مع الكيان الصهيوني منذ مدة، واستثمارا منها لهاته الحالة، حاولت إسرائيل اختراق الطوق العربي مرة عبر الدعوة إلى الحوار والتعايش بين الديانتين الإسلامية واليهودية، ومرة عبر تشجيع رجال الأعمال اليهود على إقامة علاقات اقتصادية مع مختلف الفاعلين الاقتصاديين العرب لتسهيل عمليات الاختراق. ينضاف إلى ذلك تسخير الصناعة اليهودية في ميدان الإعلام عبر العالم للترويج للطروحات الإسرائيلية. ويمكن القول أيضا إن غياب الديمقراطية في الدول العربية والإسلامية ساهم إلى حد كبير في تهيئة مناخ التطبيع، حيث هناك قمع لمبادرات المعارضة وتغييب لمختلف الأصوات التي تصدع بالحق وتخالف التوجهات الرسمية في مقاربة مختلف الملفات، سواء الداخلية منها أو الخارجية. لذا فالممانعة يجب أن تتأسس أولا على تحصين الذات، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا في حالة تمتيع المواطن بحقه في مساءلة المسؤولين، والمشاركة في اتخاد القرار. وأعتقد أن أول خط لمواجهة الاختراق الصهيوني للساحة العربية يبتدئ من تمتيع المواطن بكامل حقوقه في ظل المسؤولية. هل من تفسير للضغوط الأمريكية المتصاعدة على الدول العربية والإسلامية من أجل فتح قنوات ديبلوماسية بين العرب وإسرائيل، وهل هي محاولة للهروب من المأزق العراقي؟ أكيد أن المأزق الذي تمر منه السياسة التوسعية والهيمنية الأمريكية في العالم، لا سيما بعد فشل كل المخططات الأمريكية في تحويل العراق إلى ساحة لتعميم الديمقراطية في المنطقة، وفشل إدارة جورج بوش في تسويق سياساتها المتسمة بالغطرسة والاستخفاف بالحضارات والثقافات الأخرى، كل هذا دفع الإدارة الأمريكية إلى البحث عن تجميد بعض بؤر التوثر الأخرى، أو العمل على تهدئتها. من جهة أخرى فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية ترى من وجهة نظرها، والتي تقتسمها مع الصهاينة، أن إسرائيل قدمت تنازلات بما فيه الكفاية من خلال انسحابها الأحادي من قطاع غزة، وهذا في نظرهم يستوجب من الدول العربية تقديم تنازلات من جانبها، بهدف إقامة علاقات ديبلوماسية طبيعية مع إسرائيل ومن تم الانخراط في مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي سبق لأمريكا أن قامت بتسويقه. ويمكن القول إن المأزق الأمريكي الحالي في الساحة العراقية أدخل المشروع الأمريكي للسيطرة على العالم، والذي نادى به أركان اليمين المسيحي المحافظ وأرباب الصناعة العسكرية في نفق مسدود. والسؤال المطروح حاليا من قبل الكثير من المراقبين الدوليين هو: هل المأزق الأمريكي الحالي في العراق سوف يدفع الإدارة الأمريكية إلى تغيير سياساتها تجاه المنطقة وباقي مناطق العالم، أم أن لغة المصالح ومنطق الامبراطورية سيدفعان الساسة في واشنطن إلى الدفع بخططهم الهيمنية إلى أقصى مداها. الملاحظ أن صف المقاومة العربية والإسلامية لخطى التطبيع قد بدأ يخترق من قبل المطبعين مع الكيان الصهيوني، هل هذا يعني أن آليات عمل قوى الممانعة لم تعد تقوى على التصدي للضغوط الأمريكية وللمطالب الإسرائيلية؟ أغلب قوى الممانعة في الدول العربية تفتقر إلى الوسائل والإمكانيات لمواجهة فيضان التطبيع، رغم أن الكثير من المبادرات في هذا الاتجاه قد حققت بعض النجاحات. وأعود إلى المسألة التي ذكرتها سابقا، وهي أن مبتدأ الأمر يكمن في تمتيع المواطن العربي بحق المبادرة وإشراكه في اتخاذ القرارات. فالتصدي للضغوط الخارجية، أمريكية كانت أو إسرائيلية تبتدئ من احترام رأي المواطن، وصون كرامته، وتوحيد الجبهة الداخلية عبر قاعدة الديمقراطية والمسؤولية.