الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة والدولة..إصلاح أم إسقاط
نشر في التجديد يوم 08 - 07 - 2016

ما هي طبيعة المعركة بين الثورة والدولة، وهل هناك بالفعل معركة؟ وهل يتحقق التغيير بإصلاح الدولة، أم أن التغيير يتطلب إسقاط الدولة القائمة وبناء دولة أخرى؟ كيف يمكن أن تتغير الدولة التي أسسها الاحتلال، وتصبح دولة أخرى مستقلة؟
إن فرضية أن الثورة تتسبب في إسقاط الدولة، أو أن الثورة تعمل على إسقاط الدولة، ليست فرضية صحيحة في تصوري، فالواقع يؤكد على أن الدولة تتعرض للسقوط، عندما يدفعها الحكم العسكري لتحارب من أجل بقاءه.
عندما تصبح الدولة طرفا في حرب على المجتمع، أو طرفا في حرب أهلية، يمكن أن تتعرض للسقوط، بسبب الغياب التدريجي لدورها ومؤسساتها، وتقلص مساحة تواجد الدولة تدريجيا، حيث يمثل غياب الدولة، نوعا من السقوط النسبي.
معركة الثورة هي معركة تغيير، لذا فإنها تستهدف إحداث تغيير شامل، وانتقال المجتمع من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، وهو ما يعني قطع الصلة مع النظام السياسي القديم وبناء نظام سياسي جديد.
في كل الأنظمة السياسية، تتأسس الدولة على قواعد حاكمة تستمدها من النظام السياسي السائد، مما يعني أن تغيير النظام السياسي يستلزم تغييرا في الدولة، خاصة في القواعد والأسس التي بنيت عليها الدولة، والتي تمثل السياسات العامة الحاكمة لها.
في كل الأنظمة المستبدة، يتم إدماج الدولة في النظام السياسي، وإدماج النظام السياسي في الحاكم، بمعنى أن الحكم المستبد، يقلص المساحات الفاصلة بين مكونات المجال السياسي ويدمجها في سلطة واحدة مهيمنة ومسيطرة.
في الحكم العسكري، تتحول الدولة إلى مجرد أدوات في يد سلطة عسكرية، وتتقلص المسافات أو الفواصل بين مؤسسات الدولة، لتصبح كلها مجرد أداة الحكم العسكري، مما يدمج الدولة أكثر في السلطة العسكرية، لتكتسب طابع الحكم العسكري.
إذا كانت الثورة تستهدف التغيير، والتغيير لا يتم إلا بتغيير النظام السياسي كله، فإن معنى هذا أن التغيير يشمل أيضا الدولة، وأن نجاح الثورة لا يتحقق إلا بتغيير طبيعة الدولة والأسس التي قامت عليها، والسياسات العامة الحاكمة لها.
رغم أن الدولة تصل إلى أكثر مراحل الاندماج مع السلطة المستبدة في ظل الحكم العسكري، مما يؤثر عليها تأثيرا سلبيا، وهو ما يؤثر على مجمل أدائها، إلا أن فكرة إسقاط الدولة كجزء من مشروع الثورة، لا حاجة لها، وتضر بالثورة.
يمكن القول نظريا أن الثورة تضطر إلى إسقاط الدولة جزئيا أو كليا، إذا كانت الدولة غير قابلة للتغيير والإصلاح، مما يعني أن سقوط الدولة لا يحدث لأنه جزء من خطة ثورة، ولكن يحدث بسبب ما وصلت له الدولة من عداء للتحرر المجتمع.
وصول الدولة للمرحلة التي لا يمكن معها إحداث أي تغيير فيها، ولا يمكن إصلاحها، ليس أمرا شائعا، وهو في الحقيقة مرتبط بعمال الدولة، لأن ما يمنع التغيير والإصلاح، ويجعل الإسقاط لا مفر منه، هو الحالة التي يكون عليها عمال الدولة.
إذا وصل عمال الدولة إلى مرحلة الاندماج فكريا وعقديا مع الحكم العسكري، لدرجة تجعل لدى عمال الدولة معركة ضد أي تغيير أو إصلاح، بل وتجعل بينهم وبين الثورة معركة فكريا، في هذه الحالة يكون تفكيك بعض مؤسسات الدولة ضروريا.
في بعض الحالات، إذا كانت الدولة طرفا في حرب أهلية طائفية، وكانت بنية عمال الدولة طائفية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى انخراط عمال الدولة أنفسهم في المعركة لأسباب عقدية، مما قد يجعل تغيير وإصلاح الدولة غير ممكن.
في الحالة المصرية، لا يبدو أن عمال الدولة لديهم قناعة عقدية تجعلهم غير قابلين لأي عملية لإصلاح أو تغيير الدولة، مما يعني أن الأسباب التي تؤدي إلى سقوط الدولة بسبب التغيير الثوري، ليست موجودة في الحالة المصرية.
في الحالة المصرية هناك فقط مخاطر تخص الحكم العسكري، والذي دفع الدولة لحالة من التردي والتراجع السريع، مما جعل انهيار أداء الدولة وتفشي الفساد فيها بلا كابح، هو ما يمكن أن يؤدي إلى انحسار تواجد الدولة وليس سقوطها.
معنى ذلك أن معركة الثورة عموما، ومعركتها في الحالة المصرية، تستند أساسا على أهمية تغيير النظام السياسي بالكامل، ثم إعادة تأسيس الدولة على أساس النظام السياسي الجديد، وهو ما يحتاج لعملية تغيير وإصلاح للدولة.
في البداية يمكن الفصل بين موضوع التغيير وموضوع الإصلاح في حالة الدولة، فالمطلوب هو تغيير طبيعة الدولة، أي الهوية الحاكمة لها، وتعريفها لسيادتها، والسياسات العامة الحاكمة لها، ووظيفة الدولة، وطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
هوية وسياسات ووظيفة الدولة، هي موضوع التغيير، وأيضا وهو الأهم، طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، فهذه تمثل الركائز التي تحدد طبيعة الدولة، وهي التي تكتسبها الدولة من النظام السياسي الحاكم، وتعمل وفقا لقواعدها التشغيلية.
إصلاح الدولة، هو الإصلاح المؤسسي والإداري، وهو أمر يحتاج لعمل وجهد كبير، بسبب وصول الدولة إلى مرحلة الدولة الفاشلة، أو مرحلة شبه دولة، ورغم أن عملية الإصلاح معقدة، إلا أن هذا لا يعني أبدا أن الإسقاط أفضل.
تغيير طبيعة الدولة، ثم إصلاح هيكلها الإداري والمؤسسي، يمثلان معا العملية التي تنقل الدولة من مرحلة الدولة الفاشلة، إلى مرحلة الدولة الناهضة، والتي تصبح بعدها الدولة، أداة المجتمع في النهوض، بعد أن كانت سببا في التراجع.
إعادة التأسيس
في ظل حكم مستبد، فإن العقيدة المؤسسة للدولة، وطبيعة دورها ووظيفتها، كلها تكرس الاستبداد، والحكم العسكري، وهو ما يجعل العلاقة بين الدولة والمجتمع تتأثر سلبا، لأنها تصبح أساسا جزءا من منظومة الاستبداد.
إذا رجعنا لتاريخ التأسيس نقول: أن الدولة تأسست على عقيدة وضعها المحتل، ثم ورثها الحكم المستبد، ولم يحدث في تلك العقيدة تغير ما، بقدر ما حدث تردي في أداء الدولة مع الوقت، كما حدث تمادي في سيطرة الدولة على المجتمع.
فرضت العقيدة المؤسسة للدولة على المجتمع، بل وفرضت الدولة نفسها على المجتمع، لذا أصبحت علاقة الدولة بالمجتمع تقوم على السيطرة على المجتمع وقهره، وهو ما شكل طبيعة الدولة خلال العقود الماضية.
خلاصة تاريخ تأسيس الدولة، تكشف عن أن عملية التأسيس نفسها كانت خطأ، لأنها قامت على الاحتلال الأجنبي، واستمرت بعد ذلك مع الحكم المستبد، لذا فإن الثورة في معركة التغيير تستهدف عمليا، إعادة تأسيس الدولة.
عملية إسقاط النظام السياسي المستبد، وبناء نظام سياسي جديد، هي نفسها تكون العملية التي بمقتضاها تخضع الدولة من حيث هي المؤسسة التي يمارس الحكم من خلالها، إلى عملية إعادة تأسيس جديدة، ومن خلال تلك العملية، تتأسس للدولة طبيعة جديدة.
هناك العديد من الشروط التي تحتاجها عملية تأسيس الدولة من جديد، فهي تحتاج لمجال سياسي مفتوح ومنظم، وعملية سياسية حرة ومنضبطة ومستمرة لفترة زمنية حتى تصل لمرحلة الاستقرار، فكل هذا يسمح بحالة التفاعل المجتمعي الحر.
من داخل التفاعل السياسي الحر، يتأسس النظام السياسي الجديد، ثم تتراكم تفاعلات العملية السياسية، مما يجعل الدولة بوصفها المؤسسة التي تمارس السلطة التنفيذية من خلالها، في قلب عملية تغيير واسعة، تتراكم آثارها عليها.
من أهم العوامل الضرورية في أي عملية تغيير لطبيعة الدولة والعقيدة المؤسسة لها، هو الدور الشعبي، ودور الرافعة الشعبية للثورة، لأن تفعيل الدور الشعبي الإيجابي، يدفع الدولة لتغيير علاقتها مع المجتمع، وهو أمر محوري.
يمكن القول: أن تغيير العلاقة بين الدولة والمجتمع، تعد العملية الأساسية التي تغير العقيدة المؤسسة للدولة، فعندما يتغير دور الدولة من السيطرة على المجتمع، إلى أن تصبح الدولة وكيلا عن المجتمع، فإن طبيعة الدولة تتغير بعد ذلك.
يبرز الدور الشعبي في وجود فعل إيجابي شعبي، ورافعة شعبية منظمة، تفرض على أجهزة الدولة تغيير منطق وأسلوب تعاملها مع المجتمع ومع المواطن العادي، وهو ما يؤدي تدريجيا إلى تغيير علاقة الدولة بالمجتمع.
في تأسيس الدول، تتأسس الدول نظريا على حاجة مجتمعية متفق عليها، لتصبح الدولة قائمة بهذه الحاجة أو الحاجات، في مقابل ذلك يتنازل المجتمع طوعا عن جزء من حريته، حتى تتمكن الدولة من تلبية حاجات المجتمع.
عملية إعادة تأسيس الدولة تعد ضرورية، لأنها العملية التي يتحدد من خلالها حاجة المجتمع من الدولة، وطبيعة الدور المطلوب منها، وبالتالي يحدد المجتمع علاقة الدولة به، كما تتحدد ضمنا أدوار المجتمع وأدوار الدولة، والعلاقة بينهما.
منذ قرنين من الزمان، لم يتاح للمجتمعات العربية والإسلامية، أن تمر بعملية تأسيس الدولة الحديثة المعبرة عن المجتمع، والتي تتأسس من داخل المجتمع، وتكتسب عقيدتها من المجتمع، ويتحدد دورها بناء على حاجات المجتمع.
ما تقدمه الثورة في الواقع للمجتمعات، هو فرصة تاريخية جديدة، بدل الفرص التي أهدرها الاحتلال أولا ثم الاستبداد ثانيا، حتى تتمكن المجتمعات من تأسيس دولتها الحديثة، بعد أن انهارت دولتها القديمة، ومنعت من تأسيس غيرها.
الدخول في عملية إعادة تأسيس الدولة، ليس مجرد تغيير وإصلاح للدولة، وهو أيضا ليس مجرد جزء من عملية تأسيس النظام السياسي الجديد، بل هو أيضا جزء أساسي من إعادة إحياء المجتمع نفسه، وبعثه من جديد بروح جديدة.
في تاريخ الثورات، لم تتأسس فقط دول حديثة تعبر عن الثورة، بعد المعارك الطويلة بالطبع، ولكن تأسست مرحلة جديدة من تاريخ المجتمعات، وبعض المجتمعات تأسست بوضعها الحالي لأول مرة، وبعض القوميات عرفت بوضعها الحالي لأول مرة.
عندما يتمكن المجتمع من تأسيس النظام السياسي المعبر عنه، ومن تأسيس الدولة المعبرة عنه، يدخل المجتمع في مرحلة حراك مجتمعي شامل، تجعل المجتمع نفسه يمر بمرحلة إعادة التأسيس، ومرحلة إحياء حضوره ودوره.
قد نتصور أحيانا، أن الثورة تحتاج لعملية طويلة من تحريك المجتمع حتى يتمكن في النهاية من القيام بدوره، ثم تأتي مرحلة إعادة تأسيس الدولة، ولكن الغالب تاريخيا، أن عملية بناء النظام السياسي الجديد وإعادة تأسيس الدولة تتزامن مع إعادة تأسيس المجتمع.
الدور المهم الذي تلعبه السلطة السياسية في حياة المجتمعات، يجعل إسقاط النظام السياسي القديم أمرا مهما من أجل فتح الباب أمام إعادة تأسيس الدولة، وأيضا إعادة تأسيس المجتمع وإحياءه، مما يعني أننا أمام عملية واحدة شاملة، أيا كانت مراحل تحققها.
من داخل عملية تأسيس النظام السياسي الجديد، وإعادة تأسيس الدولة، يقوم المجتمع بدوره التأسيسي الذي لا يتكرر تاريخيا إلا في فترات قليلة، وهو ما يتيح للمجتمع إعادة تعريف نفسه، وصياغة هويته مرة أخرى، وتجديد تلك الصياغة.
خلاصة تلك العملية المفصلية في حياة أي ثورة، أن الإسقاط هو للنظام السياسي القديم، والبناء لنظام سياسي جديد، ثم إعادة تأسيس الدولة من خلال المجتمع، مما ينتج عنه إعادة تأسيس للمجتمع، تدخله مرحلة تاريخية جديدة.
إنجاز ثورة
العلاقة بين الثورة والدولة، وتأثير الثورة على طبيعة الدولة والعقيدة التي تستند إليها، تحدد مدى ما تحققه الثورة، وربما تحدد ما إذا كانت ثورة أنجزت فعلا ثوريا أم لا. بمعنى أن تغيير طبيعة الدولة، من الشروط الضرورية لإنجاز الثورة.
إذا كان الوضع بعد الثورة، يتمثل في تعديل ما على النظام السياسي، وبقاء الدولة كما هي بالأسس التي بنيت عليها في زمن الاحتلال والاستبداد، فإن ذلك يعني أن الثورة لم تكتمل بعد، ولم تنجز فعلا ثوريا تاريخيا، ينهي حقبة تاريخية ويبدأ حقبة أخرى.
حتى بناء النظام السياسي الجديد إذا تم، فهو لا يعني أن الثورة حققت إنجازا ثوريا جديدا، ما لم تتم عملية تغيير طبيعة الدولة والعقيدة التي تستند إليها، لأن بقاء الدولة على الأسس التي بنيت عليها، يعني أن النظام السياسي الجديد امتداد للقديم.
ربما يقول البعض: أن الأسس التي بنيت عليه الدولة قد لا تحتاج لتغيير شامل، فقد تكون بعض الأسس التي تستند لها الدولة مناسبة للمجتمع، وقد تكون بعض وظائفها مناسبة، وجزء من العلاقة بين الدولة والمجتمع قد لا يحتاج لتغيير.
لكن الواقع التاريخي يحكي قصة مختلفة عن الدولة الحديثة، لأن بناء دولة حديثة بعد انهيار الدولة القديمة، يقوم أساسا على خيارات المجتمع، بمعنى أن عملية تأسيس المجتمع للدولة بحرية وبخيارات حرة، تعد مسألة ضرورية وأساسية.
إذا افترضنا أن الكثير من طبيعة الدولة لا يحتاج لتغيير، وهذا غير صحيح، فحتى في هذه الحالة من الضروري أن تتم إعادة تأسيس للدولة بخيارات شعبية حرة، وبفعل شعبي حر، أي أن من ضرورات الثورة أن يؤسس المجتمع دولته بنفسه.
عملية إعادة تأسيس الدولة التي بناها الاحتلال وحكمها بعده الاستبداد، من مستلزمات الفعل الثوري، أيا كانت النتيجة المترتبة على ذلك، سواء كان من نتيجة ذلك دولة لها طبيعة مشابهة لما كانت عليه، وهو من غير المرجح، أو دولة لها طبيعة مختلفة تماما.
بناء المجتمع للدولة شرط ضروري لتحقيق التكامل بين دور الدولة والمجتمع، ولبناء علاقة صحية بين الدولة والمجتمع، ولتفعيل دور الدولة في المجتمع، ودور المجتمع مع الدولة، وبدون حدوث عملية بناء المجتمع للدولة، تبقى الدولة المستوردة المستبدة كما هي.
نمط الدولة التسلطية قائم أساسا لأن الدولة بنيت على يد الاحتلال، واستمرت الدولة أداة سلطة الحكم المستبد والعسكري، لذا فإن النمط التسلطي للدولة لا يتغير، مهما تغير النظام السياسي، إلا بعد مرور الدولة بإعادة بناء من المجتمع.
عملية إعادة بناء المجتمع للدولة لا تتم بشكل حاد وفجائي، إلا إذا فرض ذلك على الثورة والمجتمع، فهي عملية تدريجية تراكمية، تحدث من خلال استمرار فاعلية المجتمع وفعله الحر، والذي يعيد بناء الدولة وتحديد العقيدة التي تستند إليها.
إذا تكيفت الثورة والقوى المعبرة عنها في نهاية الأمر مع الدولة القائمة، فمعنى ذلك أن الثورة لم تنجز، وأن ما أنجز واقعيا هو انقلاب ناعم على الثورة، أبقى المنظومة القديمة بعد التحسين، أي أبقى الدولة المستوردة ذات الطابع الاحتلالي.
المشكلة بالطبع ليست في المؤسسات، ولا الشكل العام للدولة، ولا في الأجهزة الإدارية والفنية، ولكن المشكلة في هوية وطبيعة الدولة ودورها وعلاقتها بالمجتمع، لذا فلا يمكن أن تكون طبيعة الدولة في ظل الاستبداد مثل طبيعتها في ظل التحرر.
عندما يبنى نظام سياسي ديمقراطي وتبقى الدولة كما هي، فما تم هو تحويل ديمقراطي للنظام السياسي المستورد والمفروض على المجتمعات، مما يبقى الدولة ككيان فرض على المجتمع، كما يبقى علاقة التسلط والقهر من الدولة تجاه المجتمع، وهو ما يجهض الثورة عمليا، ويعيد المجتمع لما قبل الثورة، بعد بعض التحسينات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.