● ما هي التحديات الكبرى في حقبة ما بعد الثورة؟ ❍ إن إحدى التحديات الكبرى في حقبة ما بعد الثورة ومرحلة الانتقال الديمقراطي تتمثل في كسب التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من مدخل دمقرطة الدولة وإعادة توزيع السلطة والثروة وتفكيك البنية الاستبدادية ونخب الدولة العميقة التي احتكرت السلطة والثروة، ووظفت أنساق القيم والمعرفة والإعلام والثقافة لتأبيد تسلطها على رقاب المجتمع، وإفقاد المعنى للسياسة والقيم والثقافة بداخله؛ والتوجه نحو بناء أنماط بديلةٍ جديدةٍ (فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية) حاملةٍ لمشروع الإصلاح والدمقرطة والنهضة. ومن ثم، فمسار الانتقال الديمقراطي وتفكيك البنيات الاستبدادية والإرث التسلطي ليس مساراً خطياًّ واضحَ المعالم والأسس، فلا وجود لوصفةٍ جاهزةٍ صالحة للتطبيق، لأن هذه المرحلة تشهد مسارين متنافرين: مسارُ تفكيك الإرث التسلطي والنسق الاستبدادي، ومسارُ إعادة تركيب السلطة وإعادة بنائها من جديدٍ، وهذا ما أكده اختلافُ وتنوعُ التجارب المقارنة في الانتقال الديمقراطي سواء في الحالة الإسبانية أو تجارب بلدان المعسكر الشرقي أو بلدان أمريكا اللاتينية أو جنوب إفريقيا. إن مسارات التحول الديمقراطي مليئةٌ بالتحديات والتعقيدات البنيوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بحيث لا يمكن اختزالُ تشابكاتها وأبعادها في مستوىً واحدٍ للتحليل، لأن المشكلةَ تطالُ وضعاً أعمقَ هو طبيعة الدولة العربية الحديثة التي لديها ممارساتٌ عميقةٌ وتقاليدُ عريقةٌ وآلياتٌ عتيدةٌ في السيطرة والاستحواذ وتأميم المجتمع والتحكم في السلطات المادية والرمزية، وهي بطبيعتها تميل إلى التسلط والاستحواذ بأشكاله المختلفة، مما أنتج لنا أنساقاً استبدادياًّ ذات نزوعٍ مركزيٍّ سلطويٍّ وهيمنيٍّ يتحدد في هاجس تحكم السلطة في مجالها السياسي، والسعي إلى إعادة انتشارها عبر المحيط فصار فيها الفساد منظومةً عصيةً ومعقدةً ذات أبعادٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وإداريةٍ وإعلاميةٍ يصعب تفكيكها بسهولة. ● تحدثم في كتابكم الأخير عن «دولة الربيع العربي»، هل طبيعة الصراع اليوم في دول الربيع العربي حول نموذج الدولة؟ ثم هل نموذج الدولة المستبدة ما يزال يفرض نفسه بقوة؟ ❍ كان لابد من إدراك أن الصراع القائم في دول الربيع الديمقراطي هو حول نموذج الدولة العربية المنشود، وأنها مرحلة تطلع كفاحي جماعي لبناء كتلة ديمقراطية جامعة تستكمل تفكيك الأنماط الاستبدادية المركبة التي استحكمت في الدولة العربية الحديثة، ولا تزال دولة الربيع العربي تسعى إلى التخلص منها أو تفجيرها من الداخل، كحضور النمط الريعي أو العسكري أو النمط الأبوي أو النمط الزبوني أو باقي الأنماط التسلطية التي تفسر طبيعة الدولة العربية بعد الاستقلال؛ فلا يمكن إدراكها إلا بوصفها نسقاً معقداً فيما ترتبط بطبيعتها وكينونتها وفكرتها وعلاقتها بالمجتمع، فنحن أمام دولة ما زالت تتصارع فيها قيم الثقافة الديمقراطية والأصولية العسكرية والاستبدادية والدينية والعلمانية. وهذا يتطلب جهدا ممتدا ومعقدا ومثابرا في إنجاز التحول التاريخي/ الحضاري من نموذج «الدولة ضد الأمة»(المتغولة على المجتمع)، إلى نموذج «الدولة في خدمة الأمة»(الدولة العادلة والفاعلة والقادرة)، متجاوزين مأزق «الدولة الرخوة/الفاشلة»(التي تصدر القوانين ولا تطبقها وتحمي الفساد) و «الدولة البوليسية/القمعية» ومتجنبين فوضى الانهيار أو الطائفية أو التجزئة نحو آفاق «الدولة العادلة والفاعلة والقادرة»، ويتم ذلك عبر وسيط نموذج استعادة الأمة للفاعلية والتأثير والسيادة؛ ونؤكد في هذا السياق على أن طبيعة التفاعل المباشر وغير المباشر، وحجم التدافع وحِدَّةَ الصراع بين استراتيجيات الدولة والفاعلين والمجتمع من خلال نموذج الاتصال بالأمة والانفصال عن الاستبداد هو الذي ينتج التركيب الثوري الجديد، وسيحدد ملامح الدولة الجديدة، فالتفكيك وحده لا ينتج أي نموذجٍ بديلٍ، مما يقتضي الإجابة على الإشكالات الكبرى التي تعاني منها دولة الربيع الديمقراطي، أولها سؤال العلاقة بين الدولة والمجتمع وثانيها إشكالية العلاقة بين الدولة والدين وثالثها التفكير في آليات تفكيك النسق الاستبدادي، ورابعها الانتقال من سؤال من يحكم إلى طرح سؤال كيف نحكم؟ ● بعد ما حصل في مصر في الثالث من يوليوز، هل نحن إزاء انتكاسة ديمقراطية وعودة حتمية لدولة الاستبداد؟ ❍ إن تأسيس تحولٍ جذريٍّ في طبيعة فلسفة الحكم ومنطق تدبيره ونموذجه، لن يكون أمراً سهلاً فهذا النموذج البديل ليس نموذجاً جاهزاً يتم تبنيه، أو منظومةَ قوانين يتم تشريعها، أو قراراتٍ مهما كانت أهميتها يتم اتخاذها، بل يتضمن هذه الأبعاد كلها، بالإضافة إلى ضرورة تحوله إلى خيارٍ مجتمعيٍّ ورؤيةٍ ناظمةٍ لعلاقة الدولة بالمجتمع، وهو ما يتطلب خوض مسارٍ حضاريٍّ طويلٍ ومعقدٍ من الكفاح الديمقراطي والاندماج الاجتماعي والتغيير الثقافي وتوفر إرادة مقاومةٍ وقدرةٍ جماعيةٍ على النهوض، كما يقتضي ذلك الوعي المركب بالمحيط الخارجي وطبيعة المرحلة الحضارية الراهنة. قد تكون مؤشرات انتكاسة ديمقراطية في الحالة المصرية لها تداعيات جيوسياسية وإستراتيجية صعبة وقلقة، لكن تحرر المجتمع من هيمنة الدولة التنين، وكسره لسيكولوجية الإنسان المقهور، وانطلاق قواه النابضة، لم يعد من الممكن معها أن يعود وحش الدولة المستبد لاحتلال المجتمع وفضاءاته ومؤسساته، ولكن يمكن للدولة العميقة وللثورة المضادة تعويق وتأخير التحرر الكامل للمجتمع، واستنزاف موارده وإفشال خياراته وهذا أمر وارد، إذ يتطلب هذا التدافع إعادة الاعتبار للمجتمعات، لتكون قادرةً على مواجهة الفساد والدفاع عن مصالحها في مواجهة التحالف الاقتصادي السياسي الإعلامي العسكري المهيمن، مما يعني ضرورةً تقويةُ المجتمع ليكون مؤهلاً وفاعلاً في الدفاع عن مصالح الناس، وهذا هو امتحان الحفاظ على قيم الثورة. صحيحٌ أننا نلمح بوادرَ تشكل دورة تحررٍ حضاريٍّ جديدةً للعرب والمسلمين، لكن في الوقت نفسه، لا يزال العالم العربي تحت وطأة ضغطٍ حضاريٍّ شديدٍ عليه، وهيمنة فاعلٍ دوليٍّ مؤثرٍ يريد الحفاظ على مصالحه في المنطقة في ظل خللٍ فادحٍ في موازين القوى الدولية؛ وهنا لا بد من التمييز بين التحول السياسي المؤقت والموضعي المفتوح على الانتكاسات والتعثرات والتسويات، وبين التحول التاريخي الحضاري المسنود بتغيير في النظام الاجتماعي والثقافي والقيمي للمجتمعات العربية، إن النموذج الثوري الانتفاضي لم يصل إلى ذروته بعد، فهو يحمل تغييرا معقدا وغير محسومٍ، ومساره غير خطيٍّ، ومفتوحٌ على المستقبل، ويظل خاضعاً في تبلوره لموازين قوى واستراتيجيات فاعلين، وحركية المحيطٍ وإرادات شعوبٍ، ويصعب التسرع في الحكم على هذه الظاهرة المتحركة أو تقييم نتائجها نهائيا في إطار زمني محدود.كما يشتغل هذا النموذج الانتفاضي في ظل استمرارية متقطعةٍ لا تؤمن بالزعامة المركزية أو الإيديولوجيا الثورية. فلا ينتظر المنتفضُ شعاراً موحداً، ولا جماعةً سريةً تكون طليعةً ثوريةً ولا حتى دورةً تكوينيةً. فقوةُ الانتفاض مشتتةٌ لا مركزيةٌ ومتفاوتةُ السرعة، وقادرةٌ على تعبئة الجميع في حركتها المرنة والخلاقة، الدالة على وجود قوةٍ ساكنةٍ كامنةٍ في عمق الإنسان العربي الثائر، تنفجر وتظهر في شكلٍ أسطوريٍّ تولد الجديد من القديم، لكنها تترك مجالاً واسعاً وفضفاضاً للإبداع الانتفاضي في التصدي لأشكال القهر والطغيان، وقد يخبو هذا النموذج ويتوارى حتى يعتقد أنه انتهى إلى غير رجعةٍ، لكن مدركاته القيمية والسياسية والحضارية تظل كامنةً في اللاوعي ومُتجذرةً بعمقٍ في المجتمعات العربية، لكي تظل خزاناً مستمراّ للانتفاض والثورة، وقابلاً للاشتعال كلما شعر الناس بالظلم أو تم الالتفاف على مطالبهم ومصالحهم ومرجعيتهم واختياراتهم الحرة؛ فالمعركة مع الثورة المضادة ومع الانقلاب العسكري منطقا ومنهجا وخيارا، هي معركة حول الإرادة الشعبية والوعي العام والرأي العام، وحول تماسك وقوة المجتمع، بما يعنيه من امتلاك القدرة على تفكيكٍ ماديٍّ ومعنويٍّ لبنى السلطوية وعبادة العسكرتارية مؤسساتياًّ وثقافياًّ ورمزياًّ، واقتسام أعباء صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يركز على استعادة الحرية وإقرار العدالة الاجتماعية وتأسيس المواطنة الكاملة.