حضرت حفل الكرامة، الذي نظمه بعض شباب آيت بورزوين بإقليم الحاجب، احتفاء بمن بقي من المقاومين والمجاهدين، الذين جعلهم الله سببا لما ينعم به المغرب اليوم من بعض السيادة والاستقلال، وقد أثارني ما جاء في كلمة أولئك الشباب، حيث قاموا بحسب ما تيسر لهم بجرد أسماء المقاومين في هذا الجزء من الأطلس المتوسط، فذكروا ثمانية وأربعين مقاوما، فقلت في نفسي رغم ما يظهر من قلة العدد في مثل هذه المنطقة الشاسعة وكذلك الرجال يقلون في زمن المحن، إذا قورنوا بالذكور الذين يملأون المكان. وأجلت النظر، ونحن في زمن السلم، ترى كم من الرواحل يحملون هم الدعوة والإصلاح والتغيير، ومقاومة المنكر والفساد والظلم، في مثل هذه المنطقة وما يشبهها في ربوع الوطن؟ لا شك أن العدد سيكون قليلا جدا، ومع التفاؤل يكون قريبا من عدد المقاومين، أما إذا استحضرت الفرق بين الزمنيين، وقمت باستدعاء زمن الخوف، فأخشى أن يلقي عدد من ذلك القليل ثوب الرجولة، مكتفين بما دونها من مراتب الذكورة. كما أذهلني في كلمتهم، أن يكون عدد من سويت ملفاتهم بغض النظر عن نوعية التسوية وقيمتها لا يتعدى ثمانية أفراد، وآلمني أن يكون أكثر من نصفهم أي سبعة وعشرين منهم قد غادرونا إلى دار البقاء، وجلهم يحمل معه ملفه الذي جحده وأهمله ذراري الاستقلال من مسؤولي هذا الوطن، ليضعوه في محكمة العدل الكبرى، محكمة رب العالمين، يشكون فيها جحود الجاحدين، وظلم الظالمين. حكى لي أحدهم والحسرة تعصر قبله، وهو يقاوم عياء الشيخوخة، وتظهر عليه علامة الذكاء والمتابعة للشأن العام، بأن ما كان يشغل بالهم يوم كان الإفرنجة جاثمين على صدر الوطن، هو دحر المستعمر والقيام بالواجب وفداء الوطن بالغالي والنفيس وترقب ساعة الفرح والاستقلال والكرامة، ولم يكن لهم أبدا طمع في غنيمة أو مكافأة، إنما كان القصد هو النصر أو الشهادة. وبعد فرحة الاستقلال، اتجه أغلبهم إلى إصلاح شأنه وشأن أسرته والمساهمة بما تيسر في بناء الوطن، إلى أن سمعوا بوجود عزم ونية لأداء بعض حقوق من كانوا سببا في حرية البلد، فاعتقدوا في صدق ذلك، وشمروا لتهييء المطلوب من الشهادات وملء الملفات. وبدأت منذ ذلك الحين دوامة الوعود والذهاب والمجيء وطرق مختلف الأبواب من المندوبيات المحلية إلى المندوبية المركزية للمقاومين إلى الوزارة الأولى إلى الديوان الملكي إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، إلى مراسلة البرلمانيين وأسئلتهم الشفوية، وأضاف قائلا: وصل ملفي إلى أكثر من مسؤول ولم أنل غير الكلام المعسول..وكل ذنبي أن الخلية التي كنت أنشط فيها في المقاومة لما سجلت السلاح الذي كانت تتوفر عليه، سجلته في اسم المسؤول عنها، ولم يسجل كل واحد منا سلاحه في ملفه الخاص، وقد تداركنا هذا الأمر منذ سنوات، وفي الملف شهادة المسؤول تؤكد ما هو موضوع في الملف، ومع ذلك بقينا نسمع: الملف في الاستئناف، الملف في طور إعادة النظر، انتظروا انعقاد اللجنة، اللجنة مشغولة بملف المقاومين من أهل صحرائنا المسترجعة.. وهكذا مر نصف قرن شاب فيه من شاب وهرم من هرم وتوفي إلى رحمة الله من توفي. وأردف قائلا: هل يعقل يابني أن تنصف فرنسا العاملين في صفوف جيشها ممن ساعدوها في تثبيت وجودها في البلد، وممن ساعدها في الحرب العالمية، وقد كنا ننظر إليهم بانتقاص، فترسل إليهم معاشاتهم وتسوي أوضاعهم وترسل لهم المكافآت، ويبقى كثير من المقاومين لفرنسا في دوامة لا تنتهي. ثم هذا الذي يحدث في البلاد أخيرا فيما أطلق عليه الإنصاف والمصالحة، لماذا لم تعقد لنا نحن بدورنا جلسات استماع في وسائل الإعلام العمومية، نحكي فيها محنتنا مع الاستعمار، وجحود بعض من جاؤوا بعد الاستقلال، ونتواصل فيها مع الأجيال الحالية. وقد سمعت، يابني، أن بعض من أنصفتهم هيأة المصالحة، بلغت تعويضاتهم ثلاثمائة مليون. فهل نحن أقل شأنا منهم، وهل بمثل هذا توزع ثمرة الاستقلال، إن كان ثمة حقيقة من استقلال؟ لا أتكلم يا بني من منطق الحسد، حاشا لله،ولكن من نفس الشعار المرفوع شعار المصالحة وشعار الإنصاف. فأين المصالحة مع هذه الفئة المنسية؟ وأين إنصاف المقاومة وأبناء المقاومين وأسر الشهداء؟ وأقول: ألم يحن الوقت لطي هذا الملف بتدارك النقص، وإنصاف من بقي من هؤلاء البررة من أبناء الوطن، سواء بالسبل المركزية أو الجهوية والإقليمية، ولن يعجز هذا النفر اليسير كل هذه الجهات ولو بتخصيص بعض الفتات مما يذهب هدرا باسم الفن والتنشيط وغيره. والعمل على حسن تشييعهم حتى يحملوا في قلوبهم شيئا من أثر الوفاء.