بحسب بعض العارفين بشؤون السياسة على الطريقة إياها، فقد كان "الاعتدال" هو من حرر غزة، وليس دماء الشهداء التي ضيعها "التطرف"!! سنعيد ها هنا التذكير ببعض الحقائق الموضوعية، مع أن الاحتفال بالانسحاب وجلاء الغربان عن أرض غزة هو الأولى، لكن الأيام قادمة في أي حال. نتذكر أن قرار الانسحاب "أحادي الجانب" من قطاع غزة قد أخذ من قبل شارون أيام "التطرف" وقبل أن تتمتع فلسطين بزعامة الاعتدال، فقد كان ياسر عرفات المسموم هو زعيم السلطة، فيما كان أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي على قيد الحياة، وما قدمه الاعتدال في واقع الحال هو مساعدة شارون على تجنب المزيد من الإذلال. كان شارون في حاجة إلى شريك ينسق معه الانسحاب حتى لا يتم تحت النار الفلسطينية كما حصل في حالة جنوب لبنان. يحتاجه كي لا يكون الانسحاب كاملاً من المعابر والبحر والجو، وفيما تبرعت القيادة المصرية تحت وطأة ضغوط الإصلاح بتوفير هذا الشرط، فقد كانت القيادة الفلسطينيةالجديدة "المعتدلة" هي المؤهلة للقيام بالمهمة، وتحديداً من خلال أولئك الذين حاولوا الانقلاب على ياسر عرفات وتهميشه، بل وتغييبه في بعض المحطات. قبل أيام كان صائب عريقات يتحدث هاهنا في عمان حول الانسحاب من غزة، وكان مما قاله، بحسب ما نقلت صحيفة القدس العربي اللندنية أن شارون قال لأبي مازن خلال لقائهما الأخير إنه إذا "لم يتعاط مع خطة فك الارتباط فسيكون مصيره مثل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات"!! تنسيق الانسحاب من قطاع غزة إذن كان حاجة ماسة بالنسبة لشارون، وهكذا يكون "الاعتدال" قد وفر سفينة الإنقاذ لشارون، إذ بدلاً من أن يخرج ذليلاً من القطاع، سيخرج بإنجاز سياسي، إذ ها هو يتحدى أمام العالم جمهور المتطرفين ويبادر إلى انسحاب من أراض محتلة من أجل دفع عملية السلام!! ثمة ما هو أسوأ من ذلك، إذ لو بقي الانسحاب أحادي الجانب لكان بوسع المقاومة أن تحققه كاملاً غير منقوص، لكن التنسيق الأمني لا زال يترك المعبر رهنا بقرار شارون، فضلاً عن الأجواء البرية والبحرية. والحال أن شارون نفسه لم يخف أن الانسحاب قد تم بسبب المقاومة، لكن القوم إياهم يكرهون أن ينسبوا الفضل لأهله لسبب بسيط هو أنهم لا يطيقون الاعتراف ببؤس طروحاتهم حول لاجدوى المقاومة المسلحة. ألم يقولوا ذات الشيء في الحالة اللبنانية يوم بدأ حزب الله مقاومته؟ خروج الاحتلال من قطاع غزة هو إنجاز للمقاومة وبرنامجها ورجالها وشهدائها، كما هو إنجاز لصمود الجماهير وعطائها الاستثنائي. إنه دم أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وقوافل الشهداء قبلهم وبعدهم من مختلف القوى، وهو دليل دامغ على أن التحرير اللاحق لن يتم بالاستجداء. فليأخذوا بعض الوقت الذي يتيحه خلل الأوضاع السياسية عربياً ودولياً من أجل التفاوض مع شارون واستجدائه كي يواصل العملية السياسية على أمل أن يحققوا ما عجز مسار أوسلو عن تحقيقه، لكن فشلهم المؤكد سيضعهم أمام اختبار الجماهير فإما أن ينحازوا لخيار المقاومة الذي حرر غزة، وإما أن يتركوا سدة القيادة والتوجيه أو يحتملوا غضبة الجماهير. شارون يهدد من يتبنون خيار المقاومة والمفاوضات بمصير عرفات، ومن يقاومون ويعلنون ضرورة دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط بمصير أحمد ياسين والرنتيسي، أما من يفاوضون وينتظرون من دون حراك فلهم البقاء حتى الموت بالسرطان أو سواه من الأمراض!! تلك هي معادلة الصراع مع الغزاة، فليس ثمة إنجازات بذل الاستجداء بل بالبطولة والشهداء، وهاكم جنوب لبنان ثم غزة، وما سيتلو من حلقات المعركة.