في مقابل الحماسة منقطعة النظير التي يبديها الشيعة في العراق للانتخابات المزمع إجراؤها نهاية شهر يناير القادم، فإن ارتباكاً لا زال يسود أوساط العرب السنة بشأن الاستحقاق المذكور، ويتبدى ذلك الارتباك في سياق التصريحات والمواقف المتباينة، كما في سياق المفاوضات التي تجري بين وفود من مدينة الفلوجة مع حكومة إياد علاوي المؤقتة، ومثلها مع آخرين من المدن السنية الأخرى، مثل سامراء وبعقوبة وسواها. تتبدى الحماسة الشيعية في ذلك الإلحاح من طرف المرجع الشيعي آية الله السيستاني على ضرورة التسجيل بكثافة في سجلات الناخبين وصولاً إلى المشاركة الشاملة، الأمر الذي وصل حداً غير مسبوق في ظل الفتوى التي أوردها أحد ممثليه (السيد أحمد الصافي) والتي تعتبر عدم المشاركة نوعا" من "خيانة الوطن" التي تؤدي إلى "جهنم". فضلاً عن اعتبار المشاركة أكثر أهمية من الصلاة والصوم كما في فتوى لزعيم آخر (محمد اليعقوبي). الحماسة الشيعية للانتخابات تبدت من جانب آخر في العمل الحثيث ، وربما الضغوط المكثفة التي مورست على التيار الصدري، من أجل الكف عن مقاومة الاحتلال وتسليم أسلحته مقابل اشتراطات هامشية تؤكد أن الجوهر هو دفع الشيعة نحو مشاركة شاملة في الانتخابات تؤكد غالبيتهم في البلد وحقهم الطبيعي في حكمه بعد عقود، أو قرون، بحسب بعضهم، من التهميش. من الصعب القول إن التسوية التي أجريت مع التيار الصدري ستسمح له بالمشاركة في الانتخابات بطريقة تفضي إلى حصوله على نسبة كبيرة من الأصوات يبدو مؤهلاً لها، إذ أن الحكومة المؤقتة والمتحالفين معها من القوى الشيعية التقليدية لن يسمحوا بأمر كهذا يساعدهم في ذلك قانون الانتخابات المعد بعناية لهذا الغرض، وفي كل الأحوال فإن أقصى ما يمكن أن يسمح به للتيار الصدري هو الدخول في تحالف ما مع بعض القوى وصولاً إلى رقم هامشي لا يغير من شروط اللعبة التالية، وهي اللعبة التي تقضي ببقاء قوات الاحتلال في قواعد عسكرية تحت مسمى قوات صديقة تتواجد بطلب من الحكومة الشرعية.. نأتي إلى موقف العرب السنة من الانتخابات. وهنا يمكن القول إن من الطبيعي أن يظهر نوع من الخلاف في أوساطهم حول استحقاق من هذا النوع، سيما وأن خلافاً قد نشب سابقاً حول استحقاقات أقل أهمية مثل تشكيل مجلس الحكم، ومن بعده تشكيل المجلس الوطني، لكن الموقف هذه المرة يبدو أكثر صعوبة من حيث تزامنه مع حملات عسكرية متواصلة تشارك فيها قوات الحرس الوطني إلى جانب القوات الأميركية هدفها إخضاع ما يسمونه المدن المتمردة، إضافة إلى ما يقول البعض إنه الخشية من العزلة في حال مر استحقاق الانتخابات من دون مشاركة المناطق السنية، الأمر الذي قد يعني استئثار الأطراف الأخرى الشيعية والكردية بالساحة السياسية، من خلال البرلمان ومن ثم الحكومة التي تليها وبينهما توزيع مختلف المواقع التي جرى تغييب العرب السنة عن أهمها خلال المرحلة الماضية. وما يعزز الهاجس المذكور هو أن الانتخابات لن تتم على أساس الحصص الطائفية أو الدوائر الصغيرة، وإنما القوائم الحزبية التي تعتبر العراق دائرة انتخابية واحدة. والحال أن خطاب المرجع الشيعي (السيستاني) المؤيد للانتخابات والداعي إلى المشاركة الشاملة فيها ربما شكل حافزاً ما لبعض القوى السنية المؤيدة لخيار المشاركة، على اعتبار أن الغياب ستكون له مخاطره على حضور هذه الفئة في عراق المستقبل. ويمثل هذا التوجه الحزب الإسلامي العراقي الذي سبق أن دخل مجلس الحكم ويتمثل في الحكومة بوزير هامشي يحمل حقيبة الصناعة والمعادن، فيما يبدو أنه الحزب الوحيد الذي يملك حضوراً شعبياً في الوسط العربي السني، وإن كان حضوراً ضعيفاً نتج عن دخوله مجلس الحكم، في ظل أجواء عربية سنية رافضة لتوجه من هذا النوع. يرى بعضهم هنا أن بالإمكان الإبقاء على مسار المقاومة في ذات الوقت الذي يشارك فيه العرب السنة في الانتخابات، تماماً كما يحدث في الجانب الشيعي الذين سيشارك بعضه ويقاطع آخر، مع فارق أن الغالبية الساحقة لا تزال مع المشاركة، الأمر الذي لا يمنح أية أهمية لمقاطعة الأقلية. هناك آخرون في المعادلة السنية أعلنوا موقفاً مناهضاً لفكرة الانتخابات في ظل وجود الاحتلال، كما هو حال هيئة الدعوة والإرشاد، ذات التوجهات السلفية كما جاء على لسان زعيمها الشيخ مهدي الصميدعي. لكن المؤسسة الأهم بالنسبة للعرب السنة، وهي هيئة علماء المسلمين، لم تعلن حتى الآن موقفاً حاسماً بشأن مقاطعة الانتخابات، فيما هددت ومعها الهيئات السنية الأخرى في مؤتمر حاشد عقد في بغداد مؤخراً بالدعوة إلى مقاطعة الانتخابات في حال اجتاحت القوات الأميركية الفلوجة. في تفسير موقف الهيئة، يمكن القول إنه عائد إلى كون رموزها وأعضائها لم يتفقوا بعد على قرار المقاطعة والدعوة إليها، سيما بعد توجه الحزب الإسلامي نحو المشاركة، لكن ذلك لا ينفي ميل أكثر رموزها الكبار نحو الخيار الأول، الأمر الذي يطرح احتمالاً آخر في حال عدم اجتياح الفلوجة وتوفر المبرر لتنفيذ التهديد والدعوة للمقاطعة، وهو أن تقوم الهيئة، تجنباً للخلاف بمقاطعة الترشيح من دون الدعوة إلى المقاطعة الشعبية. ما يدعم هذا الخيار هو أن الانتخابات لا يمكن أن تكون نزيهة، لأن الاحتلال وعملاءه لن يحكموا على أنفسهم بالرحيل، كما أن الشكوك تحوم حولها منذ البداية من أكثر من زاوية، أولها عدم وجود تعداد سكاني حقيقي وميل الحكومة إلى الاعتماد على وثائق الحصة الغذائية السهلة التزوير، سيما في ظل حالة الفوضى السائدة. لكن الأهم هو قانون الانتخابات الذي يضع شروطاً كثيرة على الترشيح تستبعد بكل بساطة جميع معارضي الاحتلال، وتفرض بدورها تحالفات ستؤدي إلى توليفة على شاكلة انتخابات المؤتمر الوطني ومن بعده المجلس الوطني المؤقت. ما سيجري بحسب أهم التقديرات هو تكرار لما حدث في الانتخابات المشار إليها آنفاً، أي تشكيل قائمة وطنية بتوافق الأحزاب الشيعية الكبيرة مع الحزبين الكرديين، وإذا لم يحدث ذلك فسيكون هناك بضع قوائم كبيرة تمنح الغالبية للتيار الشيعي المؤيد للحكومة، ومعه النسبة المعروفة (20%) للأكراد ومثلها للعرب السنة لا يحصد منها الحزب الإسلامي المشارك سوى على نسبة محدودة تجعله هامشياً في المجموع، فيما تمنح قدراً من الشرعية لمشاركة العرب السنة، تماماً كما كان دور الحزب في صيغة مجلس الحكم. تلك هي في واقع الحال توابع المشاركة (الإسلامية السنية) في العملية الانتخابية، الأمر الذي ينطبق على مشاركة التيار الصدري، ونعني منح قدر من المصداقية لعملية سياسية مصاغة بعناية من أجل منح الشرعية للوجود الأمريكي في العراق، وهو أمر سيبقى مرفوضاً حتى لو حاز على توقيع الأغلبية من بين الذين سيدخلون البرلمان، وهو ما يتوقع في كل الأحوال بعد إقصاء التيار الصدري أو تحجيم مشاركته في المعسكر الشيعي، وغياب تيار المقاومة في الوسط السني ممثلاً بهيئة علماء المسلمين، وفي ظل حسم معظم معسكر الأكراد لصالح الخيارات الأمريكية. أما خيار التهميش الذي يتحدث عنه البعض في حال عدم مشاركة العرب السنة، كما هو خطاب الحزب الإسلامي، فهو خيار واقع إذا كان القصد هو نوعية التمثيل، أما إذا كان القصد هو نسبته، فيمكن لقادة الحزب أن يطمئنوا لأن من يعدون الطبخة لن يفوتهم هذا الأمر وسيمنحون العرب السنة حصتهم المقررة سلفاً (20%)، أكان من خلال أحزاب هامشية مؤيدة للحكومة المؤقتة ولخيار التمديد لقوات الاحتلال، أم من خلال زعماء عشائريين من لون معين يعنيهم الحضور في الزفة من دون النظر إلى العواقب، في حين سيؤدي رفض المشاركة إلى حضور أكبر للعرب السنة، وبخاصة للرافضين منهم،من باب تشكيكهم بالعملية برمتها ومحاولات الآخرين المحمومة لإرضائهم، فضلاً عن حضورهم الأكبر من خلال المقاومة. وفي كل الأحوال فإن أية نسب أو حقائق تفرضها الانتخابات ستبقى حقائق مؤقتة، لأنها فرضت في زمن الاحتلال ولا بد أن تنتهي بعد رحيله. أما الجانب الآخر، فهو أن القوى ذات الجذور الفكرية والاجتماعية وذات السجل الميداني المشرف لا تخشى فعل المقاطعة حين يكون المسار السياسي مشبوهاً، ونذكّر هنا بما قاله البعض لحركة حماس حين قاطعت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996، حيث هددوها بالتهميش فوقع العكس، بل وانحاز من شاركوا في الانتخابات لاحقاً لخيارها المقاوم حين تبدى لهم وهم الحصول على الحرية والكرامة والسيادة بمنطق الاستجداء. من هنا يبدو خيار المقاطعة ورفض إعطاء الشرعية للعملية الانتخابية هو الخيار الأفضل، ليس للعرب السنة فحسب، وإنما للعراق والعراقيين والأمة من ورائهم، ومع المقاطعة تستمر المقاومة وصولاً إلى إنهاء الاحتلال والحصول على الاستقلال الكامل والسيادة الحقيقية، ومن ثم الحضور السياسي لمن قاوموا الاحتلال ورفضوه، وليس لمن تعاونوا معه وسعوا إلى الحفاظ على مصالحه، وبالطبع من دون أن يعني ذلك أدنى اعتراض على حق كل فئة في أن تأخذ حصتها بحسب واقع الأرقام الحقيقية على الأرض. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني