يزعم الأستاذ أحمد عصيد عضو المعهد الملكي للتقافة الأمازيغية أن الشعوب الأمازيغية حافظت على علمانيتها، حتى بعد الفتح الإسلامي، من خلال اعتمادها قوانين عرفية لا علاقة لها بأي دين، تكتب في ألواح، ويتم الرجوع إليها لحل النزاعات، في حين اقتصر دور الفقيه عندهم على الإمامة في الصلاة والوعظ والإرشاد في أمور الآخرة. وبهذا كانت تفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي!. الحلقة الأولى يقول في هذا الصدد :كانت الجماعات والقبائل تنظم نفسها وفق أعرافها وقوانينها التي تبتكرها باجتهادها العقلي رغم وجود الأديان، وهذا ما فعله أجدادنا الأمازيغ على مر القرون، حيث كانوا يضعون قوانين عرفية لا علاقة لها بأي دين يكتبونها في ألواح، ويعتمدونها في معاملاتهم وكانوا في نفس الوقت يتخذون الفقيه إماماً في الصلاة، ولكن لم يكونوا يسمحون له بالتدخل في شؤون دنياهم، وإن كانوا يستشيرونه في شؤون الآخرة، ويسألونه في أمور العقيدة.كان أجدادنا الأمازيغ مثلاً يمتنعون عن قطع يد السارق ويحكمون عليه بالغرامة، وكانوا لا يعرفون حكم الإعدام وقطع الرأس، إذ كان الحكم بالنفي من القبيلة هو أقسى الأحكام عندهم. لقد كانوا يعطلون الأحكام الشرعية ويحتكمون إلى أعرافهم العقلانية دون أن يعتبروا أنفسهم خارج الدين، وهذه هي العلمانية .(حوار أجرته الأحداث المغربية مع أحمد عصيد حول العلمانية في الوطن العربي عدد29: أبريل 2005) ، ومن تم يسعى السيد عصيد الى تأصيل العلمانية في ثقافتنا، ويؤكد على أن سياقها التاريخي لم يكن في يوم من الأيام غريباً أو دخيلا، بل هي ثمرة جهود كل الثقافات والحضارات السابقة.ويعتبر أن العلمانيين العرب أخطأوا خطأً فادحاً لما رسخوا في الأذهان أن العلمانية والديموقراطية بضاعة غربية لا علاقة لها بثقافتنا،مما جعل الشعوب العربية والإسلامية تنظر إليها بعين الريبة، بل ترفضها وتتصدى لها على خلفية الصراع مع الغرب المسيحي المستعمر! يقول: إنني أومن بأن القيم الإنسانية العليا موجودة في كل الثقافات وليست حكراً على الغرب، وبإمكاننا من داخل المنظومة التربوية أن نخلق السياق الخصوصي الوطني لكل القيم النبيلة التي نطمح إلى إشاعتها في مجتمعنا، ولكن لا ينبغي عرضها على أنها مفاهيم وقيم أجنبية، وهذا خطأ فادح وقعت فيه نخبنا في السابق، وعلينا اليوم تفاديه وتدارك تبعاته التي منها النزوع السلفي داخل المجتمع. إن ما فعله فرح أنطوان وشلبي الشميل وسلامة موسى وطه حسين ولطفي السيد هو أنهم تعرفوا على مفاهيم ومضامين معرفية تطورت في سياق المجتمعات الغربية، فحاولوا التعريف بها في بلدانهم، مع كثير من الانبهار في بعض الأحيان. والحقيقة أن ما كان ينبغي عليهم عمله هو تأصيل تلك المفاهيم في ثقافات مجتمعهم وإيجاد السياق الخصوصي لها،لأن عرضها والتعريف بها بوصفها ثقافة غربية كان خطأ(المرجع السابق). و نحن نؤكد أن العلمانية لم تعرف طريقها إلى المجتمعات الإسلامية الا بعد الاستعمار اللاتيني الأخير حيث تمّ استبدال قوانين الشريعة بالقوانين الغربية، ولمدة ثلاثة عشر قرناً كانت القوانين تستمد من نصوص الشريعة، وقد توسع المالكية في مصادر التشريع فاعتبروا المصلحة المرسلة والعرف إذا لم يناقض الكتاب والسنة، وغيرها،هذا في الغالب الأعم، دون إنكار وجود ما يشذ عن هذه القاعدة في بعض المراحل التاريخية النادرة. منها ما أشار إليه السيد عصيد بصيغة العموم من غير تدقيق، فالقبائل الأمازيغية كانت تتحاكم إلى الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة على تنوعها، وكانت ترجع إلى الفقهاء لمعرفة الحكم الشرعي في النوازل، وهو ما سنبنيه بإذن الله. ولم تظهر الألواح الا في عصور الانحطاط، حيث ساد التخلف والانحطاط جميع مجالات الحياة، وتكلس العقل المسلم ،وغاب الفقيه المجتهد، وشاع الفسق والفجور والفساد والحرابة في فترة القرن الثالث عشر والرابع عشر كما يظهر مما جمعه الأستاذ محمد العثماني في رسالة تحت عنوان: ألواح جزولة والتشريع الإسلامي. وأقدم لوح عثر عليه مؤرخ في 904هجرية الموافق 1498 م،هو لوح حصن أكادير أو أجاريف. يقول الدكتور الحسن العبادييعتقد ان عرفاء القبائل إنفلاس ألجأتهم الضرورة في بادئ الأمر إلى وضع هذه التدابير الزجرية لضبط الأمن وضمان الاستقرار خصوصاً في فترات ضعف السلطة المركزية العمومية.. وهي خاصة بالقبائل الجبلية والفحصية البعيدة عن مراكز الدولة. ومما يدل على ذلك هذا النص الذي ذكره القاضي التمنارتي في الفوائد الجمة،حيث قال: سافرت من تارودانت إلى بلاد القبلة،فمررت ببلاد هنكيسة فكانوا يتحاكمون إلي، فإذا عرضت خصومة تتعلق بحصونهم التي أعدوها لحفظ أموالهم، وكانوا يبنونها على شواهقمنيعة، قالوا: هذه إنما يحكم فيها ألواح الحصون،فسألتهم عنها، فقالوا: هي ضوابط وقوانين رسموها، وينتهون إليها عند وقوع حادث في الحصن، فشرحوا منها كثيراً فوجدتها كلها من باب العقوبة بالمال التي ليست إلا في الغش، وليس شئ منها في الغش بل هي عوض عن الحدود التي نصبها الشارع زجرا. فقلت لهم:(هذا من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به) . وقد أثارت مسألة التحاكم إلى هذه الألواح نوازل شتى ناقشها العلماء في حينها.. إذ الناس في سوس لا يعرفون طوال العهد الإسلامي إلا الشريعة الإسلامية قاعدة للحكم،سواء في أحكام الأسرة من زواج وطلاق وإرث وتبرعات،أو في أحكام المعاملات،حيث يتولى ذلك القضاة الشرعيون الذين يعينون من قبل السلطان أو نائبه أو فقهاء معروفون يحكمون في القضايا الشرعية، وقد عرف نظام تحكيم الفقهاء تطوراً كبيراً في سوس حتى العهود الأخيرة، وأما الحدود والجنايات والمظالم التي تقع في الأسواق والطرقات فقد كان يتولاها كبار القبيلةإنفلاس، خاصة في فترات اختلال الأمن، وضعف السلطة المركزية عن ضبط القبائل، واستتباب الأمن العام(فقه النوازل في سوس437)، ومما يدل على أن الألواح إنما تلجأ القبائل السوسية إليها عند ضعف السلطة المركزية،أنها انتشرت وتفاقم أمرها أوائل القرن الحادي عشر على إثر وفاة أحمد المنصور، واضطراب أحوال المغرب ،مما جعل كل قبيلة تتخذ لها لوحا، وتنتخب نفاليسها لتحفظ مالها،وتحمي نفسها من قطاع الطرق، وانتشار التسيب بين القبائل، فنشأ للألواح وضع جديد بكثرتها وابتعادها عن روح الشريعة،وامتلائها بآراء العوام، فكثر الجدل حولها، والانتقاد لها. ويوضح هذا الوضع المشار إليه السؤال المشهور حول الألواح واينفلاس الذي وجهه الأمير يحيى بن عبد الله الحاحي حوالي عام 1023هجرية إلى فقهاء سوس ومراكش يستفتيهم عن وجهة نظر الشريعة في أمرها.(نفس المصدر441). وقد أجاب عن هذا السؤال حول حكم الألواح والتحاكم إليها، كما جاء مفصلا مع أجوبته في مجموع خطي بخزانة ابن يوسف بمراكش تحت رقم ,348كما يوجد في نوازل الرسموكيوفي نوازل السكتاني ، وحسب ما ذكره الدكتور الحسن العبادي :خمسة من كبار فقهاء ذلك العصر. نذكر جواب أحمد بابا السوداني وجواب القاضي عيسى السكتاني. أ أحمد بابا السوداني (ت1036هجرية) قال: فاجتماعهم مشروع، وحكمهم يقوم مقام السلطان والقاضي، حيث لا قاضي ولا سلطان، وأما جعلهم الضوابط على مقتضى المصالح، فإن كانت جارية على وجه الشرع فليس بجهل، بل إنفاذ لأحكام الشرع. وأما استردادهم الأموال من قطاع الطريق، فإن فعلوا ذلك ليردوها إلى أصحابها فهو فعل حسن. وأما عقوبتهم الجاني بهدم داره وذبح بقرته،ففعل هؤلاء الشيوخ حرام،لأنه ليس من أحكام الشرع،لأن العقوبة بالمال لا تجوز في المذهب،إما اتفاقاً،وإما على المشهور. وأما تحليفهم المتهم خمسين يميناً،فمن جملة تغيير الشرع. وأما ما أخذوه من الإنصافات،فبعد أدائهم لأرباب الحقوق، يرد الباقي إلى مولاه إن كان حياً، أو لورثته إن مات. ب قاضي تارودانت عيسى بن عبد الرحمان السكتاني، وهو من علماء سوس السابرين لأوضاعها عن كثب،قال.واعلم أن أفعال أولئك فيها تفصيل،منها ما هو جائز، ومنها ما هو غير جائز،فمن الجائز اتفاقهم على عريف يصدرون عن رأيه،وتعاهدهم على التعاون في الأخذ على يد المفسدين من المتلصصة،وقطاع السبل والسراق، واسترداد المنهوب من المعتدي. هذا كله من باب تغيير المنكر، والتعاون على البر والتقوى. ومن غير الجائز في ذلك إغرامهم الأبرياء، ومؤاخذة الضعفاء من الأيتام والأرامل و المتمسك بدينه، لأنه من باب دفع الضرر بالضرر، ومؤاخذة الإنسان بجناية غيره، أو قريبه، من بقية عمل الجاهلية. ومن غير الجائز كذلك اختراعهم لألواح شيطانية،وابتداعهم أحكاما على ما سولت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء،حتى إذا نزلت نازلة عليهم يهرعون في شأنها إلى تلكم الألواح، نابذين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حاكمين يغير ما أنزل الله. فما أجهل هؤلاء وأبعدهم عن دين الحق، ومن يضلل الله فلا هادي له. وكذا حلف الأقارب عن المتهم لا يجوز،لأنه لا يحلف أحد عن أحد،وكذا تحليفهم المتهم خمسين يمينا لا يجوز. وأما الإنصاف بالمال في عرفهم، وتخريب الديار فعقوبة بالمال، وليست عندنا في المذهب المالكي إلا في مسائل،وهذه ليست منها انتهى(فقه النوازل في سوس442: وما بعدها). الحاصل إذن أن الألواح انتشرت في البوادي والجبال والجهات البعيدة عن السلطة المركزية، خصوصا زمن السيبة والفوضى حيث انتشر قطاع الطرق والسراق، لذلك جاء اهتمامها بالأموال والممتلكات أكثر من غيرها. كما اتسمت بكثير من الإجحاف والظلم في حق المعتدي وأوليائه، خلافاً لما عليه شريعة الإسلام السمحة التي من أصولها ألا تزر وازرة وزر أخرىفلا يؤخذ المرء بجريرة غيره! وموقف الفقهاء منها كان واضحاً بميزان الشرع، حيث رفضها أغلبهم واعتبروها من بقايا حكم الجاهلية. قال تعالى:أفحكم الجاهلية يبغون. ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون. د. أحمد ا لشقيري الديني (يتبع)