مجرد رأي مصادرة صفة "أهل السنة والجماعة"!-بقلم ذ.محمد شاويش في إحدى النسخ "المحققة" من كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" التي صدرت في السنوات الأخيرة بشرنا "المحقق" أنه رد على الغزالي في كتاب العقائد في المواضع التي انتصر فيها للمذهب الأشعري "بما فيه الكفاية من كلام أهل السنة والجماعة". وبعد قليل عاد إلى إعلام القارئ أنه سيعلق "على الكثير من المواضع التي تمس عقيدة أهل السنة والجماعة". والقارئ الذي يعرف تاريخ تكون المذاهب الإسلامية لا بد يعلم أن الأشعري هو بالذات من صاغ في ميدان علم الكلام عقائد الأغلبية التي سمت نفسها "أهل السنة والجماعة" وهذا بالمواجهة مع الرأي المعتزلي، وقد تبنت المذاهب المالكية والشافعية والحنفية آراء الأشعري (مع قرينه الماتريدي الذي خالفه في مسائل صغيرة فرعية وأغلب أتباع الأخير من المذهب الحنفي) وشذ عن أهل السنة أقلية من الحنابلة هاجمت معتقدات الأشعري والماتريدي فرد عليهم علماء الأغلبية في صراع معروف بالتاريخ تجاوزه زماننا هذا. المسألة التي أريد أن أركز عليها هنا ليست في تفاصيل هذا الصراع بل في قدرة صاحبنا "المحقق" على الكلام بكل جرأة باسم "مذهب أهل السنة والجماعة" زاعماً أنه باسم علماء هذا المذهب سيرد على الغزالي والأشعري! أي أنه بجرة قلم جرد الغالبية الساحقة من أهل السنة والجماعة من صفتهم هذه مبقياً الصفة للأقلية التي خلفت الحنابلة في عصرنا وصار لها صدى ونفوذ لأسباب كثيرة يطول شرحها و لا يمكن في مثل هذا المقال القصير إلا الإشارة العامة إلى بعضها الأكثر عمومية. ليس مقصود كاتب هذه الكلمات بالطبع الرد على الغلو بغلو وإخراج السادة الحنابلة الجدد من بيت "أهل السنة والجماعة" بل المقصود هو تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة التي تجعل أقلية من الناس تضع معايير الانتساب للأكثرية الساحقة فتخرج الأكثرية منها لتبقي على رأي واحد يمسح كل غنى التجربة التاريخية التي كونت العمود الفقري للبنية الحضارية الإسلامية، وأعني التجربة الممثلة في الأكثرية التي اسمها "أهل السنة والجماعة". ما مر بالإسلام من قيام تلك النزعة الداعية لتخطي التجربة الفقهية التاريخية بدعوى العودة إلى المنبع والأصول له نظائر في تاريخ الأديان الأخرى، ومن أشهرها وأقربها إلينا النزعة الإصلاحية البروتستنتية التي قامت في وجه الكاثوليكية لتجعل من العقيدة مسألة يمكن لأي فرد أن يحكم بها بالاستناد إلى النص مباشرة بدون المرور بأي مؤسسة أو شخص، وقد رحب المثقف العربي بالشائعات عن هذه الظاهرة وليس بحقيقتها، إذ أننا قوم متعودون على الأخذ بالشائعات أكثر مما نحن متعودون على الدراسة الصبورة للظواهر لأجل التحقق منها وعدم التسرع بالحكم عليها. ومن المحقق أن مبدأ العودة إلى الأصول كان في تجارب بشرية كثيرة مبدأ إصلاح وتجديد لتجاوز أوضاع فاسدة ما عادت تطاق، والمرء حين يقر بذلك لا يضيف جديداً. الشيء الذي قد يكون من الجدير ذكره ليس هو هذا، بل هو أمر أرى أنه يهمل غالباً ألا وهو ذكر سيئات هذا "الإصلاح" وجوانبه السلبية، فالحال الذي أراه أننا قد تحمسنا زيادة على اللزوم لمبدأ العودة إلى الأصول بحيث أهملنا كثيراً من الخبرات الثمينة التي اكتسبت عبر القرون ورميناها مع الأوضاع الفاسدة كما يرمى الطفل مع ماء الولادة في المثل الأوروبي الشهير! لنأخذ على سبيل المثال الشعار المنتشر عندنا الآن ألا وهو شعار "العودة إلى السلف" ولننظر إليه ملياً: السؤال الوجيه الذي لا يطرح على الأغلب هو التالي: هل كان عمر وعلي وسعيد بن المسيب وأبو حنيفة ومالك والشافعي ومحمد وأبو يعقوب والقرافي وأصبغ والغزالي والنووي وابن قدامة والشوكاني وابن عابدين ومئات من أمثالهم من الفطاحل الذين شهدهم تاريخ الفقه الإسلامي ممن عادى السلف وخالف طريقهم؟ حين نتنكر كلية لما أفرزته تجربة تنزيل النصوص على الوقائع التاريخية نحرم أنفسنا ببساطة من تجارب القرون لنعود من نقطة الصفر للتجربة من جديد وغالباً ما تكون هذه التجارب مكلفة للغاية، ومن الأمثلة على ذلك أنك تجد بعض هؤلاء الذين يدعون التمسلف يريدون إحراق كل تلك التجربة العظيمة في التسامح الديني التي ميزت التجربة التاريخية الإسلامية لصالح التركيز على نصوص فصلت عن سياقها ومقاصدها ووضعت بالتضاد مع أخواتها لتعطي صورة جديدة مشوهة عن الإسلام تمثله ديناً ضيق الأفق عدوانياً لا يقبل تعدد الآراء ولا يتعامل مع الطوائف الأخرى إلا بالعنف، ولا يتحمل أي تجديد أو استعمال للعقل. إن التأثير الكبير لمساوئ عصور الخمود الحضاري قادت الإصلاحيين المسلمين في مطلع القرن العشرين الميلادي إلى التأييد المطلق غير النقدي للدعاوى المتسرعة التي تتسمى باسم السلفية، ولكن هؤلاء الرواد العظام فاتهم أن يحذروا من مخاطر هذه النزعة الجديدة التي تهدد بمصادرة كل حرية عقلية، وتركز على قضايا جزئية من جزئيات العقيدة بشكل ما فعله حتى المعتزلة الخصوم المفترضون، بل إن هؤلاء ليذكرونني أكثر من غيرهم بتشدد المعتزلة الذي جعلهم يكفّرون من لم يقل بقولهم وجعل أحد المسلمين يقول لزعيم من زعمائهم هو أبو الموسى المردار: أترى أن جنة عرضها السموات والأرض لا تتسع إلا لك ولثلاثة وافقوك الرأي! وكما قاد الانشقاق البروتستنتي على الكنيسة الكاثوليكية إلى ظهور نزعات متعصبة توتاليتارية المنزع فاقت في قمعيتها الكنيسة الجامدة المفترضة (انظر مثلا لذلك الجمهورية الدكتاتورية البطاشة التي أنشأها كالفن في جنيف) فكذلك شهدنا في الدعاوى المعادية للمذاهب عندنا تعصبات ونزعات قمعية كانت تجربة القرون المتبلورة في المذاهب الأربعة قد تخلصت منها وتجاوزتها. ومن هنا نظرت بتفاؤل إلى عودة بعض الحركات المعتدلة المتعقلة التي تتأثر بعلماء الأصول والمقاصد إلى تبني المذاهب التاريخية كحركة التوحيد والإصلاح المغربية التي أعلنت تبنيها لمذهب الأغلبية التاريخي في المغرب: مذهب مالك! التجربة التاريخية تعني بآن واحد ممارسة اجتماعية سياسية وممارسة نظرية موازية تجلت في علم أصول الفقه وما قارنه من نظرات مقاصدية طورها علماء متعددون كالعز بن عبد السلام وابن القيم والقرافي والشاطبي وابن عابدين وصولاً إلى العصر الحديث ومن تابع هؤلاء من مجدي عصرنا وألبائه كالأستاذ الريسوني وزملائه في المغرب وكالأستاذ القرضاوي في مصر وكثير من غير هؤلاء. وحين تجرد الإسلام من بعديه: التجربة الاجتماعية السياسية الطويلة والتجربة العلمية الفقهية فإنك تترك النصوص لكل من هب ودب يؤولها كما يشاء وفق تجربته المعدومة ونظره القصير وفي ذلك الخطر كل الخطر! محمد شاويش-برلين