أضحى البحث في الجدل الديني من حيث منطلقاته، وخلفياته، وموضوعاته، من أكثر المجالات المعرفية حضورا في الوسط الثقافي المعاصر. ولذلك عدة عوامل، من أهمها عودة السؤال الديني إلى الواجهة، من خلال دراسة انعكاساته على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وباعتباره أهم المكونات الموجهة للفعل الإنساني بمختلف أشكاله ومظاهره. فلقد شكل الدين تاريخيا الفاعل الأساسي في شبكة العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وذلك من خلال إشاعة جو من التعايش والتساكن والتفاعل بين مختلف العقائد والأديان تارة، أو من خلال كونه عاملا من عوامل الصراع والتنافر التي تخيم على معتنقي الأديان تارة أخرى. ولعل وجها من أوجه هذا الاهتمام بهذا المجال المعرفي الخصب، تحقيق تراث الجدل الديني الذي خلفه علماء الإسلام في مناظراتهم ومجادلاتهم لأتباع الديانتين اليهودية والنصرانية. فبدأنا نلاحظ بين الفينة والأخرى ظهور بعض المصنفات المحققة في هذا المجال، ومنها المصنف موضوع المقال "الحسام الممدود في الرد على اليهود" لعبد الحق الإسلامي السبتي، والذي قام بتحقيقه الدكتور عمر وفيق الداعوق. نماذج من كتب الجدل الديني: أسعفني الحظ بقراءة مقال للفقيه محمد المنوني رحمه الله تحت عنوان "أصول الديانات في المغرب الوسيط والحديث". تحدث فيه عن ما وقف عليه من مؤلفات في الديانات. ومن بينها رسالة الحسام الممدود... ورسالة السائل والمجيب وروضة نزهة الأدب لمحمد الأنصاري الأندلسي. وتطرق مرة أخرى في كتابه "ورقات عن حضارة المرينيين"، وذلك في الفصل الثاني من الباب الثالث والمعنون ب "التيارات الفكرية في المغرب المريني". والذي بين فيه أن من مظاهر التفكير الديني في هاته الفترة وجود حركة للرد على اليهودية والمسيحية. فالأولى هي ليهودي أسلم، فأخفى ذلك ستة عشر سنة إلى أن تأكد من ضرورة إشهار إسلامه "لأن ذلك من شأنه أن يجيره من العذاب الأليم، ويقربه من جنات النعيم". أما الرسالة الثانية فهي لا تقل أهمية عن سابقتها، إذ هي لمؤلف أندلسي مجهول الإسم الكامل، وإنما يتسمى محمدا وينتسب للأنصار، عاش في فترة عصيبة من تاريخ الأندلس (القرن التاسع الهجري/ 15 م) جعلته يخصص بعض الأبواب من مؤلفه لذكر المجالات والمحاورات التي جمعته مع علماء المسيحية بقشتالة، ليتمكن من ليس له قدرة على مناظراتهم من اكتساب ملكات هذا العلم، الذي يقتضي بالضرورة معرفة أصول دينهم، وفي ذلك يقول: "إنما دعاني لتأليف هذه الرسالة ما يأتي من الفصول الجدلية إن شاء الله تعالى.... وها أنا أذكر إن شاء الله بعضا من تلك المجالس على جهة الاختصار والتقريب، لأن ذكرها بأصلها يستدعي طولا، والقصد بذكر ما أذكر إعلام من لم يمتحن من المسلمين بأباطلهم وتساويلهم، فإنه إن اضطر أحد إلى مناظرتهم وهو غير عارف بأصولهم ربما أفحموه، وألبسوا له الحق بالباطل، فإن من شأنهم مكابدة العقول، وخلط المنقول بالمعقول. إذن فالرسالتان معا تندرجان ضمن تراث جدلي بالغ الأهمية لم يحظ للأسف الشديد بعناية الكثير من الباحثين. إوقدحقق زسالة الحسام االدكتوروفيق الداعوق إلاأنه اكتفى بالاعتماد على ثلاثة نسخ فقط. الأولى من المكتبة المركزية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. والثانية من مركز السيد جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، ومصدرها تصويرها من دار الكتب الوطنية بتونس، والثالثة من جامعة القرويين بفاس، وقد أمنها له نفس المركز السابق من تونس والقرويين. والحقيقة أن اكتفاء المحقق بهذه النسخ فقط، جعله لا يقف على الفترة التاريخية التي عاش بين ظهرانيها مؤلف الرسالة، والتي سبق وأن أشار إليها بتفصيل أستاذنا محمد المنوني في كتابه السالف الذكر. كما لم يتمكن من معرفة أن هذه الرسالة تعرف باسم آخر وهو "السيف الممدود في الرد على أحبار اليهود" وقد وردت هذه التسمية في مقدمة وهامش الورقة الثالثة من الطبعة الحجرية، والتي انتهى الناسخ منها يوم الأحد إحدى عشر رجب سنة تسعة وثمانين ومائتين وألف، وهو نفس التاريخ الموجود في نسخة القروريين التي هي ضمن النسخ التي اعتمد عليها المحقق. كما أن هناك عدة نسخ بالمغرب أذكر منها ما أعرف وهو كالتالي: نسخة بخط المؤلف، وقد ذكر في خاتمتها أنه ألفها في عهد أمير المؤمنين أبي سعيد المريني تحت عنوان "نص ما في كتاب رسالة ملاخيم" . والواقع أني كنت أظن في البداية أنه مؤلف آخر لعبد الحق الإسلامي، فشددت الرحال إلى مدينة مراكش، لأجد أنها الرسالة التي اشتغل عليها وأن واضع فهرسة الخزانة وقع في لبس سببه البتر الذي وقع في بداية المخطوط، مما جعل ورقته الأولى تبتدئ بنص ما في كتاب ملاخيم. نسخة ذكر المؤلف أنه ألفها في عهد أمير المؤمنين أبو فارس، الذي كان حاجبه أبو زيد عبد الرحمن القبائلي بتاريخ العشر الأواخر من ذي القعدة من عام ستة وتسعين وسبعمائة (796ه). وقد انتهى الناسخ منها عشية يوم الإثنين أواسط ربيع الثاني فاتح عام خمسة وسبعين وألف (1075ه). طبعة حجرية. نسخة أخرى انتهى الناسخ منها سنة 1289ه. نسخة فرع الناسخ منها يوم الأربعاء 21 جمادى الأولى عام 1226 ه. نسخة أخرى بالمكتبة الصبيحية. إضافة إلى ما تقدم هناك نسخ أخرى أشار إليها أحدالعلماء المهتمين بالتحقيق وبالفكر الإسلامي . وهناك صفحة ونصف وكأنها تابعة لنسخة أخرى من الحسام، وهي بنفس الخط الذي كتب به الكتاب الموالي. نسخة أخرى ضمن مجموع كله من نسخ الحاج حمودة بوسن وتتكون من 14 ورقة، نسخت سنة 1277ه. وهكذا يتضح لنا جليا أن هناك عدة نسخ من الرسالة، كانت الإشارة إليها منذ سنوات عديدة من طرف علماء أجلاء لهم باع طويل في التحقيق. الشيء الذي يؤكد لنا قيمة التواصل العلمي بين الباحثين، إذ الباحث لا ينبغي أن ينغلق على نفسه في البحث، وإلا فوت على نفسه الاستفادة من الآخرين ومواكبة المستجدات. وهنا لابد أن أشير أن الأستاذ عبد العزيز شهبار قد أخبرني مشكورا أن هذه الرسالة قد صدرت محققة بهولندا. التحقيقالعلمي يقتضي ارتباط التحقيق بالتخصص لا يستحب أن يكون الباحث متخصصا مثلا في اللغة وعلومها من نحو وإعراب وصرف، ويحقق مخطوطا في الفلسفة. فلاشك أن العلاقة بين العلمين وطيدة، ولكن لاشك كذلك أن المحقق المتخصص في الفلسفة سيكون أفضل من سابقه، لأنه ابن التخصص وأكثر معرفة بخبايا هذا العلم. فالقارئ لتحقيق د. عمر وفيق الداعوق يلمس بوضوح أنه أستاذ في العقيدة وإن لم يقرأ ذلك في مقدمة الكتاب، إذ أن معظم تعليقه يعتمد إما على الآيات القرآنية الكريمة، أو على الأحاديث النبوية الشريفة، أو على كتب التوحيد باستثناء بعض الشروحات التي تعتمد إما على قاموس الكتاب المقدس، أو على فقرات من كتب المهتمين للإسلام. إضافة إلى ذلك أن المحقق وضع النصوص العبرية المكتوبة بأحرف عربية بحسب ما أوردها المؤلف، واكتفى بشرح هذا الأخير لها. والحقيقة أن هذا يتنافى والشروط العلمية التي تقتضي أن يكون الباحث متضلعا في اللغة العبرية، خصوصا وأن هناك بعض الباحثين المختصين من يرى أن عبد الحق الإسلامي انتحل كثيرا من النصوص، وهذا القول في حد ذاته يعد إشكالا يحتاج إلى الدراسة. كما أن عدم توفر المحقق على نسخ متعددة من الرسالة، جعلته لا يتعرف على الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بالمؤلف، ولكي لا أبخس المحقق حقه، فإنه لا يسعني سوى أن أشيد بما جاء في مقدمته من مواضيع هي في غاية الأهمية. ابن حزم لا يقل معرفة بالأديان الأخرى والمحقق في تحقيقه وحديثه عن علم مقارنة الأديان، ومقارنته بين منهج الحسام الممدود ومنهج غيره من كتب المهتدين للإسلام، وحديثه عن الأديان والفلسفات القديمة. إلا أن ذلك كان في عجالة كبيرة، تجعل القارئ خصوصا غير المتخصص في هذا المجال لا يستوعب جيدا قيمة هذه المواضيع. ولو أن المحقق اكتفى في هذه المقدمة بالحديث عن مدى استفادة عبد الحق الإسلامي السبتي ممن سبقوه، خصوصا من الذين اهتدوا للإسلام من اليهود والنصارى كالسمو أل اليهودي المغربي، وعلي بن ابن الطبري... وكذلك من بعض علماء المسلمين الذين كان لهم باع كبير في مناظرة أهل الذمة كأبي علي محمد بن حزم لأعطي قيمة علمية أكثر للرسالة، إلا أنه اكتفى بالإشارة بعجالة إلى ابن حزم، إذ أن حديثه عنه لم يتجاوز ثمانية أسطر، مع العلم أن عطاءات هذا العالم، وتأثيره على من سبقه، ومن جاء بعده من علماء مقارنة الأديان لا يخفى على أحد من أهل التخصص. إلا أن المحقق لم يتوقف عنده، لأنه يرى أن عبد الحق الإسلامي يتميز عنه بكونه كان يهوديا فأسلم. "فهو إذن أخبر في جدال قومه، وأجدى من غيره في إظهار الحجة على خصومه". والحقيقة أن هذا القول في حاجة للمراجعة، لأن ابن حزم وإن لم يكن من أهل الكتاب، فهو عاش في مجتمع متفتح يشكل اليهود إحدى عناصره الأساسية، إضافة إلى ذلك أن هذا العالم لم يكن منغلقا على نفسه، بل كان على علاقة طيبة باليهود. ونحن نقرأ في كتاب طوق الحمامة عن الطبيب اليهودي الذي يدعى إسماعيل بن يونس، والذي كان ابن حزم على علاقة طيبة به، إذ كان يجلس في دكانه في لمة من الأصحاب. بل أننا لا نبالغ إن قلنا أن صلة ابن حزم باليهود ومناظرته إياهم كان من الأسباب القوية التي مكنته من تلك المعرفة الدقيقة واللامتناهية لكل أسفار الكتاب المقدس، وكتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل خير برهان على ذلك. وهذا باعتراف كبار المستشرقين الغربيين، وأخص بالذكر Asin Palacios الذي قام بترجمة هذا الكتاب إلى الإسبانية. وذلك تحت عنوان "ابن حزم القرطبي وتاريخه النقدي للأديان" وقد صدر هذه الترجمة بمجلد ضخم عن ابن حزم معتبرا إياه أول مؤرخ للأفكار الدينية، ومعترفا بأن دراسته النقدية للديانتين اليهودية والمسيحية هي دراسة واسعة الدراية بالكتاب المقدس، وبالجغرافية والتاريخ، وتستحق أن تعد كأول محاولة من نوعها في الإسلام، وسابقة ذات شأن مقارنة مع مثيلاتها في أوروبا المعاصرة. وختاما فلا يسعني إلا أن أعتبر أن هذه الرسالة ومثيلاتها من مؤلفات المهتدين إلى الإسلام تعد ظاهرة فذة في تاريخ الديانات عامة والتراث الإسلامي خاصة. إذ أن الأمر لم يقف عند مجرد انتقال عامل من اليهودية إلى الإسلام، بل تعدى ذلك إلى استفراغ جهد هؤلاء العلماء واستثمار علمهم وثقافتهم في دحض ديانتهم السابقة، وإظهار اضطرابها، وتناقض نصوصها. والواقع أن هذا يطرح أكثر من سؤال. ما هو المنهج الذي اعتمده هؤلاء المهتدين في نقد دياناتهم السابقة؟ وهل هناك اختلاف بين هذا المنهج، ومنهج علماء المسلمين الذين ألفوا في الملل والنحل؟ وإلى أي حد التزم هؤلاء المهتدين بأدبيات الحوار والمناظرة؟ وعلى العموم فالرسالة نموذج من النصوص التراثية المفيدة في باب الجدل الديني بالمغرب التي تحتاج إلى جهود مخلصة للتعريف بها. تورية الكرعاوي