الحلقة السادسة إن الآيات الأربع المتقدمة إنما هي تمهيد وتوطئة للآية التي نزلت متضمنة لمشروعية صلاة الجمعة، والأذان لها، والسعي إلى ذكر الله، وتحريم البيع بعد الأذان. وهذا هو المقصود من السورة.. ووجه تعلق آية الجمعة بما قبلها هو كما قال الفخر الرازي : «أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم الله تعالى بقوله: (فاسعوا إلى ذكر الله) أي: إلى ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: (والآخرة خير وأبقى) ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث، افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وبالسبت وليس للمسلمين مثله، فشرع الله لهم الجمعة». لقد خص الله تعالى هذه الأمة بيوم الجمعة وهداها له، وأضل عنه من كان قبلها... ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخِرون ونحن السابقون يوم القيامة. بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا. وأوتيناه من بعدهم. ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا. هدانا الله له. فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد». وفيه أيضا عن أبي هريرة وعن ربعي بن حِراش، عن حذيفة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد.. فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة. فجعل الجمعة والسبت والأحد. وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المَقْضِيُّ لهم قبل الخلائق» وفي رواية واصل: المَقْضِيُّ بينهم. وقد أُذِن للنبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة قبل الهجرة، فكان تشريعها كما قال محمد عَزَّة دَرْوَزَة في بدئه مكيا ونبويا ثم صار بالآيات التي نحن في صددها قرآنيا». روى الدارَقُطني عن ابن عباس قال: «أُذِن للنبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة قبل أن يهاجر فلم يستطع أن يُجَمِّعَ بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر إلى اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فأجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله بركعتين». وفي سنن ابن ماجة عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر لأبي أمامة، أسعد بن زرارة، ودعا له. فمكثت حينا أسمع ذلك منه. ثم قلت في نفسي: والله، إن ذا لَعجْز. إني أسمعه كلما سمع أذان الجمعة يستغفر لأبي أمامة ويصلي عليه، ولا أسأله عن ذلك لم هو! فخرجت به كما كنت أخرج به إلى الجمعة. فلما سمع الأذان استغفر كما كان يفعل. فقلت له: يا أبتاه! أَرَأَيْتَك صلاتَك على أسعدَ بن زُرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لِمَ هو؟ قال: أيْ بُنَي! كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في نقيع الخَضَمات في هَزْمٍ من حَرَّة بني بَيَاضَة. قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلا» ولا حجة فيه على اشتراط الأربعين، كما لا يخفى، فقد روى البيهقي في سننه عن الزهري: «أن مصعب ابن عمير حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جَمَّعَ بهم وهم اثنا عشر رجلا» وسنبين مسألة العدد في حينها. وبخصوص الاختلاف في أول من أقام صلاة الجمعة بالمدينة، فلعل الصواب هو أنه مصعب بن عمير، الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بالمسلمين، ويقرئهم القرآن، ويعلمهم دينهم، أما أسعد بن زرارة فهو الذي دعا الناس وجمعهم.. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جَمَّعَ بهم بمعونة أسعد بن زرارة، فأضافه كعب بن مالك إليه. والله أعلم. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لاثنتيْ عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد الضحى وكادت الشمس تعتدل.. فأقام بقُبَاء في بني عَمْرو بن عوف كما في سيرة ابن هشام يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة... فأدركَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وادي رَانُونَاء... قال الحافظ ابن كثير: «فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقا، لأنه والله أعلم لم يكن يتمكن هو وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان بموعظة، وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له، وأذيتهم إياه. بقلم: محمد عزيز السجاعي أستاذ باحث القنيطرة