في محاولة لرصد بعض اختلالات الفكر الإسلامي الحديث يبرز اختلال واقعيته كواحدة من العلل التي أصابته في مقتل إذ أوقعته في آفة الصورية والتجريد والبُعد عن مكابدة التحديات المعاصرة التي تعيشها الأمة وتقديم الإجابات الشافية لها. وفي خضم الدراسات المنجزة لمقاربة هذه الأزمة التي يتخبط فيها الفكر الإسلامي الحديث تظهر جهود الدكتور عبد المجيد النجار باعتباره واحدا من المفكرين الإسلاميين الذين أبلوا البلاء الحسن في نظرنا في تشخيص أسباب انكماش الفكر الإسلامي عن التفاعل مع الواقع ونُقَدِّمُ فيما يلي إلماعات لبعض آرائه في هذا الصدد بما يحتمله هذا المقال المضغوط على أمل العودة إلى الموضوع ببحث مفصل وشامل وذلك إيمانا منا بأن ما قدمه هذا المفكر الجاد بشأن تشخيص أسقام الفكر الإسلامي الحديث يستحق التنويه والإشادة وهو ما لم يحض به مقارنة ببعض الأسماء التي ذاع صيتها والتي لا يعدو ما قدمته مجرد كتابات إنشائية هدفها دغدغة العواطف دون تقديم تشخيص عميق أو اقتراح حلول عملية كفيلة بمعالجة العلل التي يكابدها الفكر الإسلامي الحديث. يرى عبد المجيد النجار أن الفكر الإسلامي الراهن يعاني من خلل في صفة الواقعية باعتبارها منهجية تفكير وسلوك وهو خلل يظهر بجلاء كما يقول فيما تعانيه المكتبة الإسلامية المعاصرة من خصاص في (الدراسات الواقعية لحياة المسلمين… بحيث تصف ذلك الواقع ، وتحلل عناصره وتبين أسبابه حتى إن المحتاج إلى علم في ذلك يجد أنه لا مناص له من أن يرجع إلى بحوث ودراسات أنتجها الفكر الغربي الذي توجه إلى الحياة الإسلامية بالدرس الشامل والعميق حتى أصبح أهل الغرب يعلمون من الأحوال الواقعة للمسلمين أكثر مما يعلم المسلمون أنفسهم عن أنفسهم) ويضيف النجار أن تعامل الفكر الإسلامي الراهن مع الواقع لا يتجاوز النظر الجُملي الذي يكتفي من الواقع بتحصيل صورته بظواهره الخارجية المشهودة بالملاحظة العابرة دون التقصي بالوسائل الكاشفة عن خفاياه مما أوقعه في تصور سطحي وتبسيطي للواقع لا يجاوز المشاهد العينية. ونوضح قبل الدُلوف إلى الأسباب التي أفضت بالفكر الإسلامي حسب النجار إلى هذا الوضع من الانكماش عن الواقع أن مقصوده بالواقعية في هذا السياق هو أخذ الواقع المادي والواقع الإنساني بالحسبان وبعين الاعتبار عند صياغة المشاريع الإصلاحية وإرادة تطبيقاها في واقع الأمة والمقصود باختلال هذه الصفة هو إهمال الواقع إهمالا كليا أو جزئيا عند صياغة هذه المشاريع والاكتفاء بصياغة نظرية تتعامل مع التصورات الذهنية المجردة والبعيدة عن معطيات الواقع الذي يراد علاجه. يُجمل عبد المجيد النجار الأسباب التي أفضت بالفكر الإسلامي إلى التنكب عن صفة الواقعية في ثلاثة أسباب وهي: أولا: الاستبداد السياسي. حيث أدى استفحال الاستبداد السياسي إلى تجاوز قمع المعارضات السياسية إلى قمع كل ما فيه مساس بشؤون الحكم من الرأي العلمي الحر المتعلق بشؤون الأمة مما نشأ عنه زهد أهل العلم الشرعي في الواقع من حيث الانخراط فيه أو من حيث تحليله. إن هذا الزهد في الواقع بسبب الخوف من بطش الاستبداد قد أدى إلى الانفصام بين العلماء والحكام مما سبب في تدهور كل منهما، فالحكام ينتقلون (بالأمة) من أزمة إلى أزمة محرومين من الانتفاع بفكر العلماء ومشورتهم وحكمتهم وكانت النتيجة تخبطا في العمل وأهل العلم أصبحوا غرباء ومبعدين عن المشاركة الفعالة في شؤون الأمة مما دفعهم إلى سلوك أحد مسلكين: إما اللجوء إلى التنظير لأمور مثالية بسبب سخطهم على السلطة السياسية،مما جعلهم عرضة للإضطهاد، أو التنازل عن المعايير الإسلامية الصحيحة والسير في ركاب السلطة بسبب ارتباطهم بها، مما أدى إلى تدمير الفكر الإسلامي بسبب التوتر المتزايد بين أهل العلم وأهل الحكم. ثانيا: النزعة الصوفية. يعود السبب الثاني في اختلال واقعية الفكر الإسلامي في نظر النجار إلى النزعة الصوفية التي كادت أن تعم العالم الإسلامي بعد إجازتها من قبل الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري والتي كرست في الأذهان أن (الواقع المحسوس من مظاهر الكون ومن حياة الناس هو واقع مرذول لأنه من مظاهر الدنيا الممقوتة، فينبغي الزهد فيه ما أمكن، والفرار منه إلى العمل الأخروي الذي لا يمر من خلال الواقع وإنما من خلال الزهد فيه) وفي تحليله للأسباب التي أدت إلى شيوع النزعة الصوفية في المجتمع الإسلامي يشير إسماعيل الفاروقي إلى أن الجو المشحون بالتوتر بين العلماء والحكام أدى إلى انطراح الكثير من أهل العلم في أحضان التصوف الذي هيأ لهم التربية الروحية الذاتية والتثقيف من خلال التجربة الروحية وعوضهم بذلك عما فقدوه على مسرح التاريخ. وأصبح الدين عندهم مهربا من الطغيان الذي لا يحتمل مما أفضى إلى: فقدان الفكر الإسلامي لصلته بالتجربة الواقعية، (وصارت مقاومة الدنيا أولا ثم نبذها كلية بعد ذلك هي الشروط الأولية للفضيلة وبدا أن الأمة قد فقدت ذلك التوازن بين القيم الفردية والجماعية التي مثلتها حياة الرسول صلى الله عليه و سلم تمثيلا رفيعا) . ونحن إذ نذكر هذا السبب كأحد العوامل التي اعتبرها الدكتور النجار مؤثرة في انحراف الفكر الإسلامي عن واقعيته فإننا نأخذه بحذر إذ أن كل التيارات الصوفية ليست على وِزَانٍ واحد في تكريس الإنخمال والانسحاب من الواقع بل كان منها تيارات خاضت غمار الواقع، محاربة الاستعمار أو إطلاقا لشرارة الثورة ضد بعض الأنظمة الحاكمة … وإن كان الغالب عليها تفضيل الانسحاب من الواقع وتفضيل الخلاص الفردي على حساب الخلاص الجماعي والانغماس في مشاكل المجتمع ولذلك نؤثر تَقْيدَ الجماعات الصوفية المعنية بهذا السبب بتلك المغالية في التزهيد من الواقع. ثالثا: الجماعات المغالية في تجريم الواقع. يرجع السبب الثالث في تنكب الفكر الإسلامي عن الواقعية إلى بعض الجماعات المغالية في تجريم الواقع بميزان ديني والتي يرجع ظهورها إلى ستينيات القرن العشرين الميلادي والتي هالها ما عليه واقع المسلمين من الفساد والانحراف فرفضته رفضا جمليا، وصرفت النظر عنه في يأس من إصلاحه باعتباره شرا كله يجب هجرانه والابتعاد عنه وعدم الالتحام به بالنظر والدرس لإصلاحه إن هذا الرفض للواقع حسب النجار والانعزال عنه من منطلق الخوف من بطش الاستبداد أو منطلق الارتماء في أحضان التصوف بحثا عن الخلاص الفردي أو منطلق تجريم الواقع وهجره بسبب ما يموج به من فساد قد أدى إلى الابتعاد عن الواقع حسيا ونفسيا مما أفضى فيما بعد إلى الابتعاد عن دراسته معرفيا.