في الدراسة السابقة كان الاكتفاء بما حرره أقطاب الفكر الإسلامي المؤسسون للصحوة المعاصرة من بداية القرن الميلادي التاسع عشر، لأنهم رسموا لها بما كتبوه وصنفوه خط السير الذي لا تكاد تخرج عنه، ولا يكاد يغادره مفكروها اللاحقون، مما هو واضح في مناهج جل الأحزاب الإسلامية المعاصرة في المنطقة العربية والإسلامية، وهو ما أسبغ على أهدافها ظلالا كثيفة وغبشا وترددا وخلطا بين فكر الماوردي الاستبدادي وبين فكر الديمقراطية الغربية العلمانية، مع تغليب لأحدهما حينا أو إجحاف في حقه حينا آخر. إلا أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت اكتساح الساحة الإسلامية من طرف اتجاهين وافدين من أقصى فترات الصراع العقدي السياسي، كادا يعصفا بفكر السادة المؤسسين(الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي والسنهوري والمودودي وقطب وغيرهم)، هذان الاتجاهان هما الاتجاه السلفي والاتجاه الشيعي. أما الاتجاه السلفي فيتجاذبه سياسيا تياران: تيار السلفية الموالية للأنظمة القائمة بمختلف تسمياته التقليدية والجامية والسرورية وغيرها، ويرى في كل متغلب إماما شرعيا لا يجوز الخروج عليه، ولو كان جاهلا أو فاسق المعتقد والسلوك أو غير قرشي. واستعان رواد هذا التيار في تبرير ما ذهبوا إليه بتأويلات انتقائية ومغالية لبعض نصوص الكتاب والسنة، احتطبوها من آراء الرجال؛ مثل ما ذهب إليه أبو يعلى الحنبلي في كتابه"الأحكام السلطانية"، مما نسبه إلى عبد الله بن عمر من قول "الجمعة مع من غلب" و "نحن مع من غلب" ، أو إلى الإمام أحمد بن حنبل حول شرعية إمامة المعتصم العباسي، وهو أمّي وسكير وفاسق العقيدة يقول بخلق القرآن. بهذه المرجعية استنبتت السلفية الموالية المعاصرة فتاوى اتخذت متاريس لحماية الاستبداد والظلم والفساد، وقمع انتفاضات المطالبة بالحرية والعدل والكرامة. ثم انقسمت على نفسها إلى فرق أهمها: ما دعي سلفية جامية معتقدها سلفي ولا ترى الخروج على الإمام بأي حال من الأحوال، أسسها الشيخ محمد أمان الجامي الأثيوبي المتجنس سعوديا، وما دعي سلفية سرورية بمعتقد سلفي ذي حركية إخوانية ومنهج يجيز بتأويلات مختلفة إعانة بعض الحكام والتعاون معهم ونصحهم وعدم الخروج عليهم في إطار المقاصد العامة والمصالح المرسلة. من دون أن يقدم أي من الفربقين أو ما تفرع عنهما منهجا سياسيا لنظام الدولة تأسيسا أو تشريعا أو تسييرا. أما التيار الثاني فهو السلفية الثائرة، أو الجهادية كما أطلق عليها حديثا، وتمثلها حركة جهيمان العتيبي ومحمد بن عبد الله القحطاني في نهاية القرن الرابع عشر الهجري بمكة المكرمة، والجماعات الإسلامية المقاتلة في مشرق العالم الإسلامي ومغربه حاليا. ولئن كان هذا التيار قد تمرد على نظرية "خوف الفتنة" لدى الفقه السني وخرج عليها، فإنه لم يستطع في نظرته السياسية أن يغادر إطار حكم "الفرد" الذي له من ورعه وتقواه وصدقه وإخلاصه ما يملأ به الأرض عدلا كما مُلئت جورا وظلما. وهو ما يُعرف بنظرية "العادل المستبد" ، الذي يتغلب على الأمة بقوة السلاح، أو تنصبه جماعة من "أهل الرأي" ، أو "أهل الحل والعقد" ، قد يتقلص عددها إلى ثلاثة أفراد، أو فردين أو فرد واحد ولو سرا، كما ذهب إليه أكثر الفقهاء والمتكلمين، وكما أسس له الماوردي من قبل. وكان مآل هذا التيار أن استطاع هدم ما هو قائم، أو خلخلة أركانه؛ ولكنه لم يقدم بديلا إسلاميا للحكم تصورا ونظاما، ونموذجا حضاريا عمليا للحياة. وأما الفكر السياسي الشيعي المعاصر، فنلاحظ فيه تحرره من قيدين، أحدهما من التراث الإمامي الخاص، هو عقيدة الانتظار التي كبّلته قرونا ومنعته من التطور. وثانيهما من تراث أهل السنة هو قيد "خوف الفتنة" الذي برروا به حكم الاستبداد، وأصلوا به تشريع الرضى بالفساد وعدم جواز الخروج على الظلم . إلا أن البديل السياسي الذي صاغه الفقه الشيعي المعاصر في نظرية "ولاية الفقيه"، لم يتجاوز نطاق الحكم الفردي المطلق الذي ينوب فيه الفقيه عن الإمام المنتظر، والراد عليه كالراد على الله سبحانه وتعالى. وهو العنوان القيادي الحركي الذي يتولى إدارة المفردات وتدبير القضايا التشريعية والتقنينية للدنيا والآخرة . ولئن حاول بعض فقهاء هذا الاتجاه، أن يثبتوا أن دور الولي الفقيه في القيادة الفردية لا يلغي دور الأمة التي تُرك لها مجال المشاركة بإبداء الرأي والنصيحة أو بالانتخاب والاستفتاء، فإن صميم العلاقة بين الأمة والولي الفقيه لم تخرج مطلقا عن دائرة الحاكم والمحكوم، وهو ما لدى فقهاء السنة أيضا على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم . ولئن كان الفكر الشيعي قد حاول في هذا العصر أن يؤسس نموذجا للحكم، وينهض بمسؤولية ذلك نهوضا قويا، فإنه في واقع التطبيق لنظرية "ولاية الفقيه" ، لم يتجاوز منهجا سياسيا زاوج فيه بين نظرية الإمامة عند أهل السنة، وبين النظام الجمهوري الديموقراطي الليبرالي، مع مراعاة المشاعر القومية الفارسية والجذور العقدية المذهبية. ذلك أن "الولي الفقيه" لديهم يختاره مجلس علماء منتخب، وهو ما لدى طائفة من علماء السنة، ترى أن العلماء هم "أولو الأمر" الذين لهم حق تنصيب الإمام . كما أن النظام البرلماني وطريقة صياغة الدستور، وأسلوب تعيين رئيس الجمهورية والوزراء، ليس له من مرجعية إلا الفكر الديموقراطي الغربي. أما اشتراط التشيع والفارسية الأصلية لا المكتسبة في رئيس الجمهورية ؛ فمن صميم الفكر القومي والمذهبي . وطيلة العقود الثلاثة الماضية برزت في مجال أبحاث الفقه السياسي الإسلامي ظاهرتان : أولاهما: ظاهرة المؤتمرات والندوات الفكرية التي تنظمها الدول الإسلامية ، عربية وغير عربية، وتحدد لها محاور سياسية واقتصادية واجتماعية وفقهية ، هدفا معلنا من أجل استصدار توصيات وتزكيات ومواقف لصالح هذه الدولة أو تلك . وأفرزت هذه الظاهرة طائفة من علماء التبرير الجوالين، صدرت عنهم فتاوى متناقضة مضطربة، زكّت جميع أنظمة الحكم القائمة حاليا في بلاد المسلمين بدون استثناء. كما أن هذا اللون من النشاط السياسي لم يستطع أن يمهد ولو لصيغ فكرية تحقق نوعا من التوافق والتلازم بين السلطة والشريعة، ولم يخرج تبعا لذلك عن المفاهيم الفقهية والاجتهادات الكلامية الخاصة بالفقه التراثي التقليدي، برغم استخدامه أساليب ومصطلحات تضاهي"إنشائيات" الحداثيين واليساريين ورطانتهم . أما الظاهرة الثانية: فتتعلق بالنشاط الإعلامي المسموع والمرئي والمكتوب، الخاص بالفقه السياسي لدى الأمة. وقد ازدهر بشكل كبير بعد ظهور القنوات الفضائية، وشمل ضروبا من الحوار والمناقشة بين علماء ومفكرين من مختلف الأعمار والأقطار والمستويات . وهي ظاهرة إيجابية ، غير أن عدم حيادية وسائل الإعلام التي تنظمها يقلل من جدواها، ويمنعها من أن تصل المدى الذي ينبغي أن تبلغه . ذلك لأن المستفتي فيها له هدف تزكية الجهة التي يمثلها، أو تحقيق مصلحة معينة لها. والمسؤول فيها - المفتي - ، يراعي ألا تُقطع حبال الودّ مع الجهة التي تخاطبه، أو خيوط البثّ التي تنشر رأيه . كما أن جل مفردات هذه اللقاءات والحوارات إن لم تكن كلها، لا تتعلق بجوهر قضية نظام الحكم، الذي هو التقويم المتكامل الصريح لطبيعة الأنظمة القائمة، والتقديم الواضح الجلي للنظام السياسي الحق. بل تدور في مجملها حول قضايا سياسية ودستورية وفلسفية غائمة مجردة، لا تمسّ لب القضية، وإنما تحوم حول الحمى ولا تقتحمه. مثل قضايا: الفقه المتحرك والفقه الجامد، مسؤولية الإنسان في تقرير مصيره، ومدى مشاركته للحاكم الفرد في إبداء الرأي، ودوره في التدبير العام ضمن حيز يُتصدَّقُ به عليه، وهل البيعة تفويض كامل أو مشروط؟ وطاعة أولي الأمر هل هي طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقط أم طاعة مطلقة ؟، وهل الديموقراطية حكم إسلامي رشيد أم لا ؟، وهل يجوز في إطار التداول على السلطة أن يرأس الدولة المسلمة شيوعي أو يهودي أو نصراني؟ … الخ . وقد اكتسبت الدراسات والآراء في هذا السياق صفة الحلقات المفرغة، التي لم تؤد إلى صياغة نظام إسلامي متكامل، بقدر ما ساهمت في خلط أوراق اللعب السياسي وإشاعة الغموض والإبهام، واستدراج كثير من المشاركين بشغب إعلامي متعمد إلى متاهات من الآراء التشطيرية والانتقائية، إن لم نقل الانتهازية التي لم تخرج قط عن إطار حكم للاستبداد، يخفف غلواءه حيز صغير من المشاركة بالرأي . ولم ترق مطلقا إلى مراقي المفهوم القرآني للحكم الرشيد، الذي يجعل أمر المسلمين ملكا لهم، يُسلطون عليه ضمن نظم مؤسساتية وتربوية وعلمية وإدارية وتشريعية وتدبيرية ، تعصم من الجنوح إلى أي شكل من أشكال الاستبداد، حكم فرد كان، أو حكم أقلية حزبية أو طبقية، أو عرقية أو عسكرية أو أمنية . وبعد، فهذا عرض موجز لأهم ما تمخضت عنه الصحوة الإسلامية المعاصرة، في مجال الفقه السياسي بتعبير العصر، أو فقه الإمامة والأحكام السلطانية بتعبير الفقهاء والمتكلمين. وهو كما رأينا خلاصة تراكمات فكرية وفقهية واجتماعية وسياسية داخلية وتأثيرات أجنبية، عاشها المسلمون ويعيشونها منذ التطبيقات الأولى للحكم الرشيد في المجتمع العربي بصفته الوعاء الأول للإسلام، إلى أن سقطت بلاد المسلمين قاطبة بيد الاستعمار في القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين، ثم تحررت منه شكليا، بعد أن اصطبغت بكثير من أصباغه الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولئن كان الفقه السياسي للصحوة المعاصرة غير خاضع لناموس الجمود والسكون والاستقرار، وهذا من مؤشرات الرشد وملامحه، فإنه لم يصل بعد إلى مستوى من الحركية الحقيقية الإيجابية للتطور المنشود، بقدر ما فيه من اضطراب وخلط وغبش في التصور والتوجه لأسباب كثيرة، من أهمها: - تراكمية التراث البشري المدون، الذي لم تتم دراسته وفرزه وسبره؛ وما حقق منه ونشر كان التقريظ والإعجاب سمة تقديمه، لذا لم ينل حظه من النقد البناء المستند إلى الكتاب والسنة؛ مما يهدد بانتكاسة فكرية في هذا المجال. لأن التراث البشري إما أن يعاد تقديمه بمنهج نقدي موضوعي فيكون منطلقا للتطوير وركيزة للتجديد؛ وإما أن يقدم كمثال نموذجي متكامل يحتذى كما هو واقع الحال، فيكون خطوة إلى الوراء وانتكاسة إلى الخلف، وعرقلة في سبيل التأصيل والتحديث. - استعجالية بعض الصادقين من التيار الإسلامي، ومبادرتهم بالمصاولة قبل اتضاح الرؤية وتبين الهدف وتكامل البديل . - انتهازية الوصوليين من المنتسبين إلى التيار الإسلامي، وحرصهم على سرقة جهود الحركة الإسلامية ومقايضة الحكام بها، استجلابا للمناصب والرتب، واحتلابا للمصالح الخاصة والمنافع الآنية . فما مدى قدرة الصحوة الحالية على الخروج من المأزق ومغادرة النفق، إلى رحاب النظام الإسلامي الرشيد ؟ وماذا ينبغي أن نختار أولا ؟ حاكما أو نظام حكم ؟ خليفة أو نظام خلافة ؟ مدبرا لأمرنا أو نظام تدبير له ؟ وقبل ذلك كله ما هو التصور الرشيد لنظام الحكم في الإسلام ؟ هل هو الخلافة الراشدة في إطارها الأول شكلا ومضمونا ؟ هل هو الملكية الوراثية أموية وعباسية وفاطمية ؟ هل هو النظام الديمقراطي الجمهوري برلمانيا أو رئاسيا، إذا ما طبق الشريعة الإسلامية في الميدان الجنائي ؟ هل هو المزاوجة بين النظم الديمقراطية وبين الاستبداد الفردي ملكيا أو عسكريا أو حكم أجهزة ؟ هل هو نظام ولاية الفقيه مزاوجا بالديمقراطية أو غير مزاوج بها ؟ هل هو نظام غير هذه الأنظمة كلها لم يتبلور بعد في أذهاننا، وله أسس في الكتاب والسنة صريحة، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما ؟ للإجابة على هذه الأسئلة وعلى غيرها لا بد من مراجعة نقدية لتاريخنا السياسي جاهلية وإسلاما، تطبيقا سياسيا، وفقها نظريا؛ ومعرفة لأوجه الصواب فيه والخلل، والتأثير والتأثر، ومدى تطابقه أو تعارضه مع الشريعة الإسلامية؛ ودراسته دراسة معمقة تجمع بين الفقه والتاريخ، وتحاكمهما معا إلى القرآن والسنة. ولا تعارض مطلقا في هذا، لأن الفقه هو مجرد فهم المسلم للنصوص، والتاريخ هو عمل المسلم وتصرفه تحت عين النصوص خضوعا لها أو تحايلا عليها أو تمردا ضدها. وبين الفقه والتاريخ عملية إثراء متبادلة، يتأثر التاريخ بالفقه لأن الأحكام الفقهية نافذة في التصرفات، ويتأثر الفقه بالتاريخ لأن كل تصرف يُستصدر له حكم فقهي خاص. ويختلف الفقهاء في حكمهم على التصرفات تبعا لظروف الزمان والمكان والبيئة، وحالات الاختيار والاضطرار والحرية والإكراه. يتطور الفقه والتاريخ معا إلى الأمام، أو يرتكسان معا إلى الحضيض، على قدر علاقتهما بالشريعة الإسلامية ومفاهيمها الحضارية ومبادئها السمحة. فهما فرسا رهان الحياة الدنيا، لا بد لفهم أحدهما من فهم الآخر. ولئن خفي هذا الارتباط الموضوعي بينهما في بعض المجالات، فهو في المجال السياسي أشد وضوحا.