يقف الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، في هذه الحلقة الخامسة والأخيرة حول علاقة سلوك الفرد الداعية بين العمل والغاية، مؤكدا أن الاتجاه الذي يسعى للعمل من أجل الغاية على كل حال، ويشعر أنه هو المسؤول عن صلاح الجماعة وفسادها، هو الأفضل لضمان سير الجماعة المسلمة بتوازن واعتدال. والمودودي، وهو يشرح داء وهن العزيمة بأسلوب الطبيب الخبير بطبيعة الداء وسبل علاجه، يؤشر على الجانب المنسي من فكر هذا الداعية الإسلامي. ومما لاشك فيه أن كل العيوب والنقائص التي تتغلغل في الجماعة يجب عليها تتبعها وملاحقتها، ولا ينبغي لها بحال من الأحوال أن تتغاضى عنها، أو تتقاعس عن بذل المساعي لمحوها، ولكن لا ينبغي كذلك أن يضطلع بهذه المهمة إلا العاملون الفعالون الذين يستميتون في خدمة الجماعة وتطويرها. ولهم الحق في تعدادها وتطاولها، وهم الذين يصلحون لغربلة الأمور، وتمييز الخبيث من الطيب، بتجرد وأمانة، ولا يجوز لحركة تقوم على الأسس الخلقية أن تسمح لظاهرة قلة الحياء... ظاهرة تتألف من نشاط غير عادي من قبل المتلصصين من العمل، المتهاونين في القيام بالواجب، المتسمين بالسلوك المنخور في ذكر عيوب الجماعة ونقائصها بألسنة حداد، فمكانتهم الحقيقية في حركة كهذه لزوم الخجل والندم والاعتراف بالذنب، لا مكانة الناقد الناصح. وأنهم لو اختاروا لأنفسهم تلك المكانة مكانة الناقد الناصح فذلك أمارة من أمارات الفساد الشديد، ولو اختارت لهم الجماعة تلك المكانة، فمعناه أن الإفلاس الخلقي أخذ يسيطر عليها. وفي هذا المقام يجب ألا تغيب عن البال قاعدة ثابتة: هي أن للجماعة المتحركة والمحركة معا لأعضائها السليمة، أحاسيس تختلف عن أعضائها المريضة، أما أعضاؤها السليمة فهي تنصرف إلى وظائفها انصرافا كليا. وتخاطر بكل ما تملك من النفس والمال في هذا السبيل، وينطق سجل أعمالها بأنها لا تقصر في القيام بواجبها بقدر ما لديها من الاستطاعة، أو التي اعتراها الشلل بعد بقائها برهة من الزمن في حركة ونشاط، والتي سجل أعمالها ينبئ بوضوح ما ألم بها من قصور وفتور. فالفرق في أحاسيس كلا النوعين من الأعضاء هو كالفرق بين بصر العين السليمة والعين الكليلة، ولا تستطيع الجماعة أن تطلع على عيوبها ونقائصها إلا من خلال أحاسيس أعضائها السليمة، والأعضاء التي فترت عن العمل، وأظهرت تذمرها لتبرير ترك العمل لن تكون أبدا وسيلة موثوقا بها لمعرفة الحقيقة، لأن أحاسيسها لن تخلو من ظواهر الغلو والتضليل بنسبة تسعين بالمائة إن لم نقل مائة بالمائة. والجماعة التي تريد الانتحار لن تبني النتائج على أحاسيسها. أما القول إن كل شخص يطلعنا على النقائص والعيوب ليس علينا إلا أن نقبلها، مستغفرين تائبين في تضرع وابتهال، ثم نضع على أساسها تقديراتنا، ونصدر بموجبها الأحكام بما نصلح له وما لا نصلح له. فليكن هذا الموقف عملا صالحا، ولكن ليس مما يقوم به النبهاء العقلاء، بل مما يقوم به البلهاء البسطاء. وهذا النمط من الناس الصالحين لم يصلحوا أمرا في غابر الأزمان، فكيف لهم أن يصلحوا شيئا اليوم؟ وظن المرء نفسه كاملا جهل عريض، وليس أقل منه جهلا أن يقرر مدى ما فيه من النقص أو الفعالية على بيان كل من هب ودب، ولا ينظر: أن الذي يقدم عليه بيانه إلى أي مدى هو يصلح لإدراك الأوضاع ونقلها؟ وأمر آخر يجب تفهمه في هذا المقام جيدا وهو: أن الجماعة الهادفة دائما إلى نوعين من المقاييس للسلوك وقابلية العمل: أحدهما المقياس المطلوب، أي أسمى مقياس يجب بذل الجهد المستمر لبلوغه. وثانيهما: أقل المقاييس للعمل الذي يجوز الأخذ به للسير في طريق الدعوة، ولا يتحمل التنازل عنه بحال من الأحوال. ونحو كل نوع من المقاييس المشار إليها يتخذ ذوو اتجاهات مختلفة مواقف مختلفة: اتجاه: لا يعطي الكثير من الأهمية للعمل في سبيل الغاية، ولا يهمه: أيصلح أمر الجماعة أو يفسد، أيتقدم أو يتأخر، لأن هذا الأمر ليس في نظره قضية مصيرية. فهو يستطيع أن يهجر هذا الأمر ثم يعيش في الدنيا مرتاح البال هادئ النفس، ويستطيع أيضا أن يواصل مشاركته إياه ولكن بشكل لا يمتص المصاص شيئا من أوقاته وطاقاته وأمواله. صاحب هذا الاتجاه إما لأجل الترفيه الذهني في معظم الأحيان، أو لأجل العذر الخلاب لتهربه من العمل حينا آخر يطير في السماوات العلى من تصوره للأخلاق والسلوك، ولا يرتاح أبدا إلى ما هو دون المقياس المطلوب، وكل شيء يراه دون ذلك، يبدي عليه قلقه الشديد وتضجره البالغ. بيد أن القلق لا يكون لأجل تضعيف العمل، بل لأجل التنصل من العمل، ولا فرق من وجهة النتائج في أن يكون هذا الموقف المتهرب أمرا شعوريا أو لا شعوريا. اتجاه آخر: وهو يعطي الكثير من الأهمية للغاية وللعمل في سبيلها، بل يعطي لهما كل الأهمية، بيد أنه نظرا لكونه مصابا بالأوهام الخيالية لا يراعي بدقة الفرق بين المقياس المطلوب وبين أقل المقاييس للعمل. ولذلك هو نفسه يتعثر في الطريق مرة بعد أخرى، وتنتابه عقد نفسية على تعاقب الخطوات، ويكون على قابلية لاستقبال عدوى الاتجاه الأول بسهولة، وعلى هذا هو يزعج نفسه كثيرا، كما يثير على غيره من العاملين النشطين أنواعا من المتاعب. اتجاه ثالث: يريد العمل لأجل الغاية على كل حال، ويشعر أنه هو المسؤول عن صلاح الجماعة وفسادها. وموقفه هذا يرغمه على أن يسير في درب الدعوة بمراعاة الفرق بين المقياسين بكل دقة، وأن يراقب جيدا مسير التقدم نحو الغاية حتى لا يتعرقل بدون سبب معقول وذي بال، وهذا لا ينسى المقياس المطلوب أبدا. ولا يغفل عن بلوغه بحال من الأحوال. ويشعر بقلق شديد على كل شيء يراه متنازلا عن المقياس للعمل والسلوك، ولا يبالي بإبعاد الناس الذين يقل مستواهم السلوكي حتى عن أقل المقاييس، بدلا من أن يغير منهجه ويبدل خطته بوحي هؤلاء الضعاف عزما وسلوكا. وحقا إنه من الواجب عليه أن يزن قوته في ميزان التقدير الدقيق، وفي ضوء ذلك التقدير يمدد نطاق عمله أو يقلصه، لأنه إذا أخطأ في ذلك التقدير يضر غايته، ولكن ما أحمق الشخص الذي يقدر بقوته تبعا لوحي الاتجاه الأول أو الاتجاه الثاني، وإن كان هناك من يساعده على هذه المهمة فليس إلا أصحاب الاتجاه الثالث. فعليه أن يكون على المعرفة بهم جيدا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين