بعدما تناول الأستاذ أبو الأعلى المودودي، رحمه الله تعالى في الجزء الأول والثاني معنى وهن العزيمة وأثر المتقاعس على نشاط الجماعة المسلمة، يتطرق في هذا الجزء من المقال، الذي نشر في كتابه: تذكرة دعاة الإسلام، إلى ما سماه بداء التقاط العيوب الذي يبرر به المتقاعس عن النشاط الدعوي والتربوي سلوك التراخي مقدما ملامح تشخيصية دقيقة لهذا الداء. يعد المتقاعس على غيره من العيوب ما هو نفسه مصاب بها، ويدل على النقائص في الجماعة ما ليس له نصيب في إنشائها أقل من غيره، وينصب شاكيا على أمور هو مصدرها، وحينما يقول: انكسر خاطره وتضجر قلبه من وجود كل ذلك في الجماعة، فالواضح من ذلك جليا أنه يبرئ نفسه من كل ذلك. ليس من جماعة بشرية تخلو من العيوب، وليس من عمل يقوم به البشر يطهر من النقص، وهذا لم يحصل في التاريخ ولن يحصل أن يتوفر لإصلاح المجتمع البشري وبنائه مجموعة من الملائكة لإنجاز الأعمال بموجب مقياس الكمال. إذا خرجت تبحث عن الأخطاء والنقائص فإنك تجدها في أي مكان، من الطبيعي أن تقترن أعمال البشر بالنقائص والعيوب. وعلى رغم ضرورة بذل المحاولات في بلوغ الكمال لا يتوقع في هذه الدنيا من أن يبلغ الإنسان مبلغا من الكمال يلقب فيه بلقب السبوح القدوس. وإذا كان المراد من التدليل على الأخطاء والنقائص محوها، وبذل المزيد من الجهود نحو المقياس المطلوب من الكمال، فهذا أمر مبارك ألف مرة. إذ لا يمكن إصلاح وتطوير الأعمال البشرية إلا بهذه الطريقة. والتغافل عنه مهلك. ولكن إذا استجمعت العيوب والنقائص الجماعية لجعلها دليلا على التخلي عن النشاط، والانعزال، والتخاذل، وانكسار الخاطر، فما من شك أن هذا العمل نفخة من الشيطان وخدعة من النفس الأمارة بالسوء، وهذا الضرب من الأعذار لا يعدمه المعذر حتى في أحسن الأوضاع وأصلح الظروف. ولا يزول هذا العذر ما دام لا تنزل طائفة من الملائكة لتحل محل البشرية. ثم لا ينبغي اللجوء إليه إلا لرجل يثبت أن شخصه الأقدس خال من العيوب والنقائص. من الحقيقة أن هذا النوع من الكلام لا ينتهي أبدا إلى أن يزول عيب أو يذهب نقص، بل هذه وصفة ناجحة لزيادة العيوب والنقائص، وليس محصله إلا أن يتبع أحد هذا الطريق ليكون مثالا لغيره من الضعفاء المتكاسلين حوله. لأنه يشير للجميع من خلال موقفه على أن يحذروا من الاعتراف بما فيهم من الوهن والخور، حتى لا يوصفوا بين أفراد الأسرة بالانهزامية وفقدان الأنفة، فيأتي كل مبطل متقاعس يحذو حذوه، ويتذرع بمكر التضجر حجة على انتكاسه. ومن ثم يأخذ في وضع القوائم بعيوب لزملاء ونقائص الجماعة بعد التقاطها من هنا وهناك. ومن هنا تتحرك في الجماعة حلقة مفرغة من الزلات والسيئات، ففي جانب يتفجر في الجماعة وباء التقاط العيوب، وتصيد الهنات، وتبادل التهم. الأمر الذي يدمر طبيعة الجماعة الخلقية تدميرا فظيعا. وفي الجانب الآخر يتأثر أشخاص معروفون بالنشاط الكبير والصدق والإخلاص في الجماعة، غير موبوئين بوهن العزيمة، يتأثرون ويصابون هم أيضا بمرض التبرد والتضجر وانكسار الخاطر، لما يسمعون من المناداة بالعيوب والنقائص والزلات والتهم والردود عليها. ثم إذا جاء نظام الجماعة يعمل على منع هذا الوباء، يلتف المصابون بالوهن والتذمر حول أنفسهم، ويشكلون كتلة في داخل الجماعة، ويتحول التذمر والوهن والتضجر إلى حركة ترمي، من واجب ديني، إلى بث التضجر، والدعوة إليه، وتوفير الدلائل له. والذين قعدت بهم الهمة نحو الغاية الأصيلة والهدف الأساسي، ينشطون لهذه الغاية المحدثة جدا، بل يتضاعف نشاطهم فيها بصورة غريبة، كأن الحماس المنطفئ فيهم عاد اشتعالا وفورة. نعم، تنقذ فيهم جذوة النشاط من جديد، ولكن بطريقة يكون اتقادها وتجددها أشد أسفا من انطفائها وموتها.