شكلت جريمة اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي يوم السبت الماضي إضافة نوعية جديدة في سجل العدوان الصهيوني، وتؤكد تلك الجريمة بأن التهديد الذي أطلقه شارون عشية اغتيال الشيخ أحمد ياسين في 22 مارس الماضي الذي قال فيه بأن جميع قادة حركة حماس يوجدون على قائمة الاستهداف كان تهديدا جديا نابعا عن تخطيط وتصميم مسبقين. أما قصر الفترة بين العمليتين، والتي لا تتجاوز شهرا واحدا، فهي لا تؤكد غير شيء واحد، وهذا الشيء الواحد محزن، وهو أن الكيان الصهيوني لم يعد يضع في الاعتبار وجود عالم عربي يمكنه الرد، وأصبح يتحرك في دائرة مفتوحة ليس فيها سوى الحسابات الأمريكية، والحسابات الأمريكية اليوم تتطابق والحسابات الصهيونية. جريمة أمريكية بامتياز إن تنفيذ جريمة الاغتيال الجبانة بعد يوم واحد فقط على عودة شارون من زيارة البيت الأبيض والحصول على الضمانات الأمريكية لخطة الفصل أحادي الجانب عن الفلسطينيين في قطاع غزة، تبين بوضوح أنها كانت موضوعة على طاولة الحكومة الصهيونية قبل لقاء بوش شارون، وأن هذا الأخير كان ينتظر توقيع جورج بوش عليها للمضي في تنفيذها العملي، ولكن توقيت العملية أيضا وارتباطها بما حصل عليه شارون من قادة البيت الأبيض يكشف لنا حقيقة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت على الدوام الشريك الرئيسي في الإجرام الصهيوني. لقد حصل شارون على ما لم يكن يحلم به حتى أعتى الصهاينة تفاؤلا في استعداد واشنطن الذهاب معه إلى نهاية الشوط، بمثل ما فاجأ بوش أكثر الصهاينة مثالية. فبعد السابقة الأمريكية التي أعلنها الرئيس الأمريكي في لقاء العقبة في العام الماضي حول الهوية الدينية للدولة الصهيونية والصفاء العرقي لها، أعطى بوش يوم الخميس الماضي لرئيس الوزراء الصهيوني قائمة مكاسب اعتبرها العديد من المعلقين الصهاينة بمثابةوعد بلفور جديد، حيث ألغى بوش عمليا أي التزام بقيام دولة فلسطينية مستقلة عام 2005 كما تعهد بذلك في خطاب يونيو 2002 الذي ألقى الكثير من التراب على أعين القادة العرب فأمنوا له، ولم يدرك أحد بناء على تاريخ التعاطي الأمريكي مع القضية الفلسطينية والقضايا العربية أن وعود الإدارات الأمريكية للعرب والفلسطينيين تمرينات لكسب الوقت، بينما المواقف الأمريكية من الكيان الصهيوني حقائق على الأرض، وبين الإثنين هامش من الوقت يمتد على مدى أكثر من نصف قرن من الصراع الطويل، وإذا ما تأملنا قائمة المنجزات الأمريكية على صعيد القضية الفلسطينية لما وجدنا غير طوابير القرارات التي يمحو بعضها بعضا، بينما لو تأملنا قائمة المنجزات فيما يتعلق بالكيان الصهيوني لوجدنا طوابير من الأسلحة والدبابات والمعونات المالية والعسكرية. في اللقاء الثنائي بين شارون وبوش الذي خرج منه قرار اغتيال الرنتيسي يوم الخميس الماضي أثنى الرئيس الأمريكي على خطة شارون حول الفصل الأحادي الجانب، واعتبرهاعملا تاريخيا وشجاعا، ومسح بجرة قلم القرار الأممي 194 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، مؤكدا على أن هذه العودة ستكون إلى الدولة الفلسطينية الموعودة في قائمة بوش الوهمية وليس إلى إسرائيل، وقرر أن تبقى المستوطنات الصهيونية الكبرى في مكانها، وأن لا عودة إلى حدود ما قبل عام ,1967 ثم لا مفاوضات مع الفلسطينيين إلا إذا غيروا قادتهم. أربعة مكاسب وضعها ساكن البيت الأبيض على طبق من ذهب لضيفه الصهيوني الذي لم يجد كلمات يعبر بها عن الصفقة التاريخية إلا أن يقول أثناء عودته إلى تل أبيب:ما فعله بوش يفوق كل التوقعات، أليس كذلك؟، كل التوقعات. وقد وجد شارون في قائمة المكاسب هذه الورقة التي تخول له مشروعية الاستمرار في إجرامه والبدء في اصطياد قادة حركة حماس التي أصبحت شوكة في خاصرته منذ أن تولى رئاسة الوزراء قبل ثلاثة أعوام، مطمئنا إلى الدعم الأمريكي غير المشروط. خشبة إسناد وفي الواقع، فإن جورج بوش نقل الصراع إلى مستوى أعلى بتحويل الولاياتالمتحدة إلى طرف وشريك في خلق الحقائق على أرض فلسطين لا الاكتفاء بدورالوسيط المراوغ الذي كان للإدارة الأمريكية سابقا، في الأعراف السائدة حتى يوم الخميس الماضي. لقد قلب منطق الصراع وتبنى الموقف الصهيوني مباشرة بدون أية مساحيق لإخفاء معالم اللص المتنكر، وحول نفسه إلى خشبة إسناد للإجرام الصهيوني. ولم يفعل الرئيس الأمريكي سوى أنه أعلن جهارا ما ظل ينافق فيه ويخاتل، أي ضرب الشرعية الدوليةعرض الحائط وعدم إقامة أي وزن للقوانين الدولية والسخرية من القرارات الأممية. أما شارون فالظاهر أنه وضع نفسه في جحر الثعابين الذي لن يخرج منه كما كان من قبل، أو كما يعتقد. ويبدو أن الغباء مهنة يتقنها مجرم صبرا وشاتيلا الذي تجلله رائحة الدم، لأنه لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، ولا يعرف أنه بإجرامه السافر يفتح على نفسه وقومه جبهة لن يغلقها أحد بعد. إن هذه الجريمة تبين بوضوح درجة الارتباك التي يوجد فيها اليوم هو وفريقه الحكومي، ولم يعد أمامه سوى نهج سياسة الهروب إلى الأمام ظنا منه أنه سينقد بذلك مستقبله السياسي، ويضمن لخطته في قطاع غزة النجاح، معتقدا أيضا بأنه بهذه السياسة الإجرامية يمكنه أن يوفر للكيان الصهيوني الأمن عبر ترك القطاع منطقة هادئة بدون قيادة صلبة لحركة حماس، وهو ظن في غير محله. لقد كان الشهيد الرنتيسي أحد أكثر قادة حماس تشبثا بتحقيق الوحدة الداخلية بين مجموع الفصائل الفلسطينية، وكان أياما قبل اغتياله يحاول إنجاح الحوار بينها وقام بأدوار في هذا التوجه، استعدادا لخروج القوات الصهيونية من قطاع غزة، وبهدف تسلم القطاع بطريقة تضمن عدم الانزلاق إلى الخلافات بين مختلف الفصائل حول من يتولى تدبير الأمور في غزة، ولذا فإن شارون كان حريصا على أن يغتاله قبل أن يشرع في تنفيذ خطته بالفصل، ليضرب في العمق استراتيجية التوحيد الفصائلي في القطاع ويحدث شرخا بين السلطة الفلسطينية وحماس، ولكنه قام بالخطإ الاستراتيجي القاتل الذي سوف يوقظ حس التلاحم في الشارع الفلسطيني في وجه الإجرام الصهيوني. إدريس الكنبوري