جادت العناية الإلهية قبل أيام بأول تزامن، منذ أربعة قرون ونصف، بين ذكرى المولد النبوي الشريف وذكرى عيد الميلاد المجيد. توافق ميمون بين المولد والميلاد لو لم يكن للتفاوت بين التقويم الهجري (القمري) والتقويم الميلادي (الشمسي) من لطائف أخرى سواه لأجزأ وكفى. وليس بضائر أن هنالك اختلافا في تحديد التاريخ الحقيقي لمولد عيسى عليه الصلاة والسلام، في مقابل شبه إجماع حول تأريخ مولد محمد صلى الله عليه وسلم بالثاني عشر من ربيع الأول (مع قول بعضهم بأن 571م هي سنة مولده وقول بعض آخر بأنها سنة 570). ومن محاسن الموافقات في هذا السياق أن قناة «أرتي» التلفزيونية الثقافية الفرنسية-الألمانية قد بثت الشهر الماضي سلسلة وثائقية من سبع حلقات بعنوان «يسوع والإسلام» من إنجاز الكاتبين والسينمائيين جيرار مورديا وجيروم بريور، اللذين أرفقا السلسلة بكتاب بعنوان «يسوع حسب (أقوال) محمد». وقد حققت السلسلة نجاحا جماهيريا باهرا، في كل من فرنسا وألمانيا، وصفه أحد الكاتبين بأنه «نصر مبين». عمل تلفزيوني رصين عميق نجح في إطلاع الجمهور الفرنسي والألماني على حقيقة ما يقوله القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عن سيدنا عيسى. وأبرز عناصر هذه الحقيقة، غير المعروفة بالنسبة لمعظم الأوروبيين رغم أنها بديهية بالنسبة للمسلمين، أن عيسى عليه السلام هو من أنبياء الإسلام الذين لا يستقيم إيمان المسلم إلا إذا آمن بهم جميعا: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرّق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير» (البقرة: 285). وقد اقتضى إنجاز السلسلة إجراء حوارات معمقة مع 26 باحثا متخصصا في الإسلاميات وفي تاريخ الديانات (كان منهم عبد المجيد الشرفي، وسليمان علي مراد وغابرييل سعيد رينولدز). وكان الكاتبان قد أنجزا قبل أعوام سلسلة بعنوان «كوربوس كريستي»، انطلاقا من «الدهشة» إزاء سيرة هذا الرجل العبراني «المحلي» الذي ظن الأهالي أن الرومان صلبوه فإذا به يتحول بعد حوالي ثلاثة قرون «أساسا، دون أن يكون مؤسسا»، للدين الرسمي للامبراطورية الرومانية! أما منطلق السلسلة الجديدة فهو «المفاجأة» بأن الإسلام لا يعدّ عيسى نبيا فحسب، بل إنه ينزّله «منزلة استثنائية» ينفرد بها عن سائر الأنبياء، حيث ينسب له معجزات خارقة تبدأ بالميلاد من أمّ لم يمسسها بشر. ويقول الكاتبان إن اللافت أن القرآن يستخدم قصة عيسى لصالح النصرانية وضدها في الوقت ذاته، حيث يعيب على بني إسرائيل عدم إيمانهم برسالة عيسى، ولكنه يسميه «ابن مريم» إبطالا للرواية النصرانية حول البنوّة (للإله) أو الألوهة (الجزئية أو الكلية). إلا أن الباحث الفلسفي عبد النور بيدار ينطلق، في حوار أجراه مع الكاتبين، من معجزة تحويل الطين إلى طير للتعجب من «قدرة» عيسى على الخلق، «الذي هو أول صفات الإله». ولكن بيدار يغفل عن أن ما يظنه «خالقيّة» لا يتعلق بقدرة ذاتية بل بإقدار إلهي، حيث يخاطب الله عيسى قائلا: «وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيها فتكون طائرا بإذني» (المائدة: 110). ثم يتساءل بيدار عن سر هذه «النقائض» القرآنية: أي الجمع بين النفي المطلق لاعتقاد المسيحيين بأن «عيسى ابن الله»، وبين نسبة معجزات خارقة إلى عيسى تشمل ما لا ينسب عادة إلا لله. فيرد الكاتبان بأن صورة عيسى في القرآن متماسكة لا تهافت فيها، وإنما تكمن الاستثنائية في موقعها، الذي يبدو كأنه موقع تماسّ بين البشرية والألوهية. ويشرحان بأنه ليست هناك نقائض أو تناقضات في القرآن، وإنما هنالك «مفارقات» يرجع أصلها إلى أن محمدا بشر ولكنه نبي يتلقى وحي السماء، أي أنه يجسم هذه المفارقة القصوى بينه و أن شأن الإنسان في الكون وبين عظمة اتصاله الروحي بالغيب. وتندرج آراء الكاتبين حول هذا «التماسك الذي لا يخلو من مفارقات» في القرآن في إطار منهجية بحثية لنا بشأنها ملاحظات سوف نتطرق لها الأسبوع القادم إن شاء الله. على أن من علائم النزاهة العلمية أن الكاتبين يوضحان أنهما قد قاربا الموضوع من منظور «لا-إيماني»، وأنهما إنما درساه دراسة أدبية وتاريخية. أما عن تواضع محمد وعدم ادعائه لنفسه أيا من معجزات عيسى، فتفسيره عندهما أن «محمدا لا يختلف عن مريم في كونه مجرد متلقّ للوحي» أمين عليه، حسب القولة التي ينسبها الكاتبان للمرحوم عبد الوهاب المؤدب.