لعل الذين فوجئوا بتأجيل القمة العربية التي كان منتظرا أن تعقد في تونس يوم 31 مارس الماضي لم يعدوا أنفسهم جيدا لتقبل المفاجأة، مفاجأة عدم الانعقاد والتأجيل الذي سقط من أعلى في اللحظة الأخيرة، وهؤلاء بالتأكيد ينتمون إلى جماعة المتفائلين المنقرضة، لأنهم كانوا ينتظرون ما لن تستطيع القمة العربية أن تمنحهم إياه. ولكن ما لم ينتبه إليه الكثيرون، هوأن عدم انعقاد القمة في التوقيت الذي كان مضروبا لها قد وفر على الجميع كميات هائلة من الحبر كان مرشحا لأن يسيل بغزارة لتحليل قراراتها وتفسيرها، أو للبكاء على النتائج الهزيلة التي ستسفر عنها، ونقد الوضع العربي المترهل وشق الجيوب. لماذا تأجلت؟ حتى الآن لم تظهر الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا التأجيل الذي أقلق الرأي العام العربي الصامت، سوى البيان التونسي الاعتذاري الذي برر التأجيل، ولكن ساحة التكهنات لم تتوقف عن تركيب السيناريوهات، ما بين تدخل أمريكي للضغط لكي لا تتأجل القمة في ذلك الموعد الخطير الذي شهد اغتيال الشيخ أحمد ياسين زعيم حركة المقاومة الإسلامية حماس، والصراع بين بعض الأقطاب العربية من أجل الزعامة، ومحاولة صهيونية لإفشال القمة، وكلها واردة بدرجات متساوية، إذ ليس مستبعدا كثيرا أن تكون الولاياتالمتحدةالأمريكية وراء التأجيل، لأن البلدان العربية أصبحت سماوات مفتوحة أمام واشنطن، وقد جرى التقليد أن يطلع البيت الأبيض على البيانات الختامية للقمم العربية قبل الاتفاق على الموعد والمكان الذي يجتمع فيه الزعماء العرب، غير أنه هذه المرة تغيرت الأشياء، ولم ترغب واشنطن في أن تنعقد قمة عربية وتصدر بيانها المعروف سلفا لكي لا تغضب الشارع العربي الذي خرج في مختلف الدول العربية في مسيرات حاشدة للتنديد بجريمة اغتيال الشيخ ياسين، وعلينا أن نقول هنا بأن التدخل الأمريكي إن تأكد بالفعل أن هناك تدخلا أمريكيا قد أنقذ البلدان العربية نفسها، قبل أن ينقذ المصالح الأمريكية أو الصهيونية في المنطقة. ملفات ثقيلة لا شك أن القمة العربية التي كانت ستنعقد في تونس في نهاية شهر مارس الماضي، كانت ستواجه مرحلة دقيقة من أصعب المراحل التي يمر بها الوضع العربي الحالي. فقد كانت هناك ملفات وقضايا على جانب كبير من الصعوبة والتشابك بحيث أن القمة كانت ستخرج متفرقة في النهاية حتما، ولكن الجريمة الصهيونية باغتيال الشيخ أحمد ياسين يوم 22 مارس أي قبل أسبوع واحد من موعدها فاجأت أصحاب القرار العربي بقوة، فالجريمة كانت رسالة صهيونية واضحة إلى القمة وتحديا كبيرا، زادت من ثقل الملفات التي كانت ستطرح فيها، ولم يكن مبررا بأي وجه أمام الشعوب العربية أن تنعقد القمة ولا يصدر عنها ما يناسب تلك الجريمة الشنعاء من قول أو فعل أو تقرير، فكان الأسلم هو الهروب إلى التأجيل بدلا من مواجهة الحقائق القاسية على الأرض، في انتظار رجوع الشارع العربي إلى هدوئه. قبل أشهر قليلة طرحت الولاياتالمتحدةالأمريكية مشروعها الشهير المسمىمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يعتبر بمثابة خطة متكاملة لتغيير الأنظمة العربية من الداخل ودمقرطتها وتقليص قبضتها على الشأن العام، وبالرغم مما قيل عن هذه الخطة، فإنها تبقى في الحقيقة اختبارا قويا لمدى قدرة الدول العربية على إحداث التحول من داخلها والاقتناع بأهمية الحياة الديمقراطية. فالخطة الأمريكية ذات رسالة واضحة، وهي أن المصالح الأمريكية في العالم العربي أصبحت مهددة بسبب غياب الحياة السياسية السليمة في الدول العربية وحق الشعوب العربية والإسلامية في التعبير عن نفسها والاختيار لنفسها، وهذا معناه أيضا أن الأنظمة العربية باتت مهددة هي الأخرى لنفس الأسباب. وقد تابعنا جميعا ما الذي حدث بعد نشر ذلك المشروع، فقد بدأت بعض الدول العربية تتسابق للإعلان عن وضع مشاريع إصلاح من الداخل للهروب من مواجهةسيف ديمقليس الأمريكي المشهر في وجهها، مثلما فعلت مصر التي أعلنت أنها حضرت خطة للإصلاح الديمقراطي، ونظمت مؤتمرا في مدينة الإسكندرية حضرته وفود رسمية وغير رسمية تمثل جمعيات عربية غير حكومية ومثقفين عربا للتباحث حول الإصلاح السياسي الداخلي، وهو مؤتمر أرادت منه مصر أن يخرج بقرار واضح يعارض فرض الإصلاحات من الخارج، وهذا ما حصل، خوفا من الضغوط الأمريكية لا رغبة في الإصلاح. وقد فتحت مصر لبعض العربية الأخرى شهية الحديث عن الإصلاحات السياسية الداخلية بشكل إرادي، والتعبير عن رفضها لفرض إصلاحات من الخارج، وبعض البلدان العربية لم تخجل وأعلنت أنها باشرت القيام بالإصلاحات منذ زمن طويل، ولكن العملية تتطلب التدرج فيها، الأمر الذي كشف عن وجود ارتباك عربي واضح ومخاوف قوية في التعاطي مع المشروع الأمريكي. وقبل أربعة أيام من موعد انعقاد القمة العربية المؤجلة في تونس، نشرت وكالات الأنباء خبرا يقول بأن واشنطن سحبت مشروعالشرق الأوسط الكبير في خطوة لترطيب الأجواء مع الدول العربية قبل القمة، وفسر السحب تضليلا على أنهتراجعأمريكي، بينما الحقيقة هي أن الولاياتالمتحدة لم تعد ترى جدوى من الشق السياسي الخاص بالإصلاحات ما دامت البلدان العربية نفسها قد بادرت إلى وضع مشاريع خاصة بها للإصلاحات قريبة من روح المشروع الأمريكي، خوفا أو طمعا، وسعت فقط إلى تأجيل الشق الاقتصادي المهم في المشروع إلى ما بعد انعقاد قمة الدول الثماني في شهر يونيو القادم وإقناع الدول الأوروبية بتمويل الخطة. إصلاح الجامعة العربية الملف الآخر الذي كان موضوعا أمام القمة العربية المؤجلة يتعلق بإصلاح جامعة الدول العربية، وكانت عدة أوراق للإصلاح مطروحة للنقاش، على رأسها بالخصوص المبادرة المصرية السعودية السورية المشتركة التي تضمنت بعض الإجراءات العملية لإصلاح الجامعة العربية، ومبادرة أمين العام الجامعة المصري عمرو موسى، وجرى الحديث عن أن الأردن سحب مبادرة كان سيتقدم بها أمام القمة في هذا الشأن، كما وضعت اليمن اقتراحين يقضي أولهما بحل الجامعة العربية وتشكيل تجمع شبيه بالاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الإفريقي، وآخر يقضي بإنشاء مجلس للدفاع المشترك بين الدول العربية، حتى قال عمرو موسى بأنالسماء تمطر مبادرات. وقد جرى كل هذا السباق بين البلدان العربية على وضع مبادرات إصلاح الجامعة العربية كطريقة ذكية لترحيل المشكلات إلى الجامعة، وإظهار المشكل وكأنه مشكل الجامعة لا مشكل الدول العربية، إذ الجامعة هي محصلة هذه الدول في النهاية، والإصلاح السياسي يجب أن يبدأ من داخل هذه الدول أولا لينعكس على أداء الجامعة في التالي. من التأجيل إلى معركة المكان بعض المراقبين يرون أن تأجيل القمة العربية في تونس كان خبرا سارا لمصر، فمصر لم ترض عن عقد القمة في أرض غير أرضها بما قد يسحب من تحتها بساط الهيمنة على الجامعة العربية الذي استمر عقودا طويلة من الزمن. والملاحظ أنه بعد تأجيل القمة أخذت مصر تنشط ديبلوماسيتها بشكل غير مسبوق من أجل عقد القمة فوق أرضها في نهاية الشهر الجاري أو في بحر أسابيعه الأخيرة، إذ استقبلت في ظرف أسبوع واحد أكثر من مسؤول عربي وتركزت المباحثات حول موعد ومكان القمة المقبلة التي تريدها مصر على أرضها، بينما تتمسك تونس بحقها في احتضان القمة. ويؤشر هذا التجاذب بين مصر وتونس حول احتضان مقر الانعقاد على بروز حدة التقاطب بين المشرق والمغرب في رحاب الجامعة العربية، وهو تقاطب لاحت بوادره الأولى يوم 2/3/2004 عندما طرحت الجزائر في اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة ورقة تدعو صراحة إلىتعريب الجامعة، أي عدمتمصيرها، وطالبت بإنهاء الاحتكار المصري لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية منذ إنشائها عام 1945 كما طالبت بإعمال مبدإ التداول على منصب الأمانة العامة باعتبار أن ميثاق الجامعة لم ينص علىجنسية الأمين العام، بل إنها طالبت بإعمال مبدإ العدالة في توزيع المناصب الإدارية في الجامعة. ومعروف أن مقر الجامعة العربية منذ تأسيسها ظل في القاهرة حتى عام 1979 عندما وقعت مصر اتفاقيةكامب ديفيد مع الكيان الصهيوني وقرار الدول العربية بعزلها، حيث انتقل مقر الجامعة إلى العاصمة التونسية وأصبح أمينها العام هو التونسي الشاذلي القليبي، وهي المرة الوحيدة التي تولى فيها شخص غير مصري منصب الأمين العام للجامعة حتى اليوم. إدريس الكنبوري