خلق موضوع استقبال اللاجئين في الغرب نقاشات كبيرة، وخلافات عميقة، سواء داخل أوروبا أو الولاياتالمتحدة الأميركية، جعلتهم في تناقض مع المواثيق الدولية التي تنظم كيفية التعامل مع اللاجئين سبب الحروب والعنف. ورغم أن أزمة اللاجئين السوريين على وجه الخصوص بدأت في نهاية عام 2011 وتفاقمت أكثر عام 2014. لكن شاحنة العار بالنمسا (وجد بداخلها أكثر من سبعين جثة هامدة للاجئين) وصورة جثة الطفل إيلان على أحد الشواطئ التركية خلال هذا العام، جعلت دولا غربية تعيد النظر في أسلوب تعاملها مع اللاجئين، وتسعى لمعالجته، لأن لها مسؤولية في الموضوع لعدم بذلها لجهد حقيقي لإنهاء المأساة في سوريا. ألمانيا تميزت عن غيرها ولعبت دورا رائدا في تحريك الملف والدعوة لاستقبال اللاجئين وتوزيع المسؤولية بين الدول الأوروبية، والتعاون مع الأميركيين والكنديين أيضا، لكن الهجمات على العاصمة الفرنسية باريس في 13 نوفمبر 2015، وتداعياتها أثرت على مسار التعاطي مع الملف المذكور، وطرحت أولويات جديدة، خاصة بعد تصاعد موجة العداء للمهاجرين، وتخويف بعض الجهات اليمينية من إمكانية تسرب متطرفين وإرهابيين تحت غطاء لاجئين، وطرحت شروطا متشددة جدا في استقبال اللاجئين كما فعل الجمهوريون في الولاياتالمتحدة الأميركية. لكن السؤال المطروح، هل يعود هذا التخوف من اللاجئين، لأسباب أمنية واجتماعية واقتصادية فقط؟ أم هناك سبب آخر أكبر وأعمق لا يتم التصريح بها بوضوح؟ خاصة أن التخوف لم يعد مقتصرا على اللاجئين، بل حتى من المهاجرين، بما فيهم المهاجرون النظاميون وعلى الأخص المسلمين، وفي هذا السياق يمكن استحضار دعوة المرشح للمحتمل لرئاسيات أميركا المقبلة دونالد ترامب لمنع دخول المسلمين لأميركا. بعيدا عن لغة الدبلوماسيين والسياسيين المطاطة هناك مفكرون كتبوا مقالات ودراسات وكُتب يمكنها تفسير الأسباب الحقيقية لذلك التخوف، وأبرزها وأشهرها كتاب «موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب» لصاحبه باتريك جيه. بوكانن. افتتحه صاحبه بكلمات رثاء مفجعة في نهاية قريبة للغرب بسبب انخفاض معدل النمو السكاني، والتباين الكبير بين معدل الوفيات في بلدان القارة العجوز ومعدل المواليد بها، مقابل ما سماها جحافل غزوات المهاجرين من العالم الثالث. وكتب بوكانن السياسي الأميركي والمستشار السابق لثلاثة رؤساء أميركيين، في مقدمة كتابه «الغرب يموت، لقد توقفت أممه عن التكاثر، وتوقف سكانه عن النمو، وبدؤوا في الانكماش، ولم يقم- منذ الموت الأسود (الطاعون) الذي حصد أرواح ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر – تهديد لبقاء الحضارة الأوروبية أخطر من هذا الخطر الماثِل اليوم». وأضاف: «هناك سبعة عشر بلدا أوروبيا، فيها جنازات أكثر من احتفالات الولادة، وهناك أكفان أكثر من المُهود، والبلدان هي: بلجيكا، وبلغاريا، وكرواتيا، وجمهورية التشيك، والدنمارك، وإستونيا، وألمانيا، والمجر، وإيطاليا، ولاتفيا، وليتوانيا، والبرتغال، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وإسبانيا، وروسيا، وجميع ملل النصرانية: الكاثوليك، والبروتستانت، والأرثوذكس، ممثلون في المسيرة العظيمة لموت الغرب». بعيدا عن انتقاد الرجل في كتابه لمنهج الحياة الذي أدى ويؤدي بالغرب لهذا النتيجة، القائم على المادية الصرفة، وتنبيهه على أن الغرب مهدد في إثر ذلك بموت أخلاقي بسبب الانقلاب الذي أصاب القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية. فإن ما يهمنا هنا هو تنبيه الرجل -وهو مفكر مخضرم- لخطر الموت الديمغرافي للغرب، حيث قدم إحصاءات وأرقاما مرعبة، تؤكد أن شعوبا أوروبية ستصبح قريبا في أفق 2050 أو نهاية القرن الحالي على أبعد تقدير أقليات في بلدانها، وأن الشيخوخة تهيمن على الهرم السكاني في عموم دول الغرب، جعلته بين خيارين إما استقدام المهاجرين الشبان أو القيام بثورة ثقافية تعيد الاعتبار للقيم الدينية والأخلاقية ومكانة الأسرة، والزواج ، لتفادي تحول الغرب، خاصة أوروبا، لقارة العجزة. الكتاب كما سبقت الإشارة يزخر بالإحصاءات، والأرقام عن هبوط معدل الخصوبة والولادات وتصاعد معدل الوفيات، وعدد عمليات الإجهاض وتراجع نسب الزواج، والتوقعات لمستقبل مرعب للهرم السكاني بدول غربية عديدة، ويؤكد بوكانن أنه من صنع الغرب نفسه وهو من يتحمل مسؤوليته. أمام هذا الواقع، يقف الغرب حائرا أمام موجات المهاجرين واللاجئين، فهو يحتاجها لتدور عجلة اقتصاداته، لكنه في الوقت نفسه يخاف منها على هويته الحضارية والدينية والثقافية في الأمد المتوسط والبعيد، بعدما أقصت العلمانية النصرانية من حياة الناس. والحال أن الدين كان دائما عاملا من العوامل الأساسية لنجاح الأمم وقيام ثقافتها وحضارتها، واستشهد بوكانن في هذا بقول توماس ستيرن إليوت «شعب بلا دين سيجد في النهاية أنه لا يملك شيئا يعيش من أجله»، وقول راسل كيرك «كل الثقافة تنشأ من الدين، وعندما يفسد الإيمان الديني، لا بد أن تتدهور الثقافة». وعلق الرجل على إحصاءات تتعلق بانتشار الإدمان على المخدرات بين الشباب في مجتمعات غربية والسعي وراء اللذة الحسية، وانهيار قيم الأسرة بقوله: «هذه إحصاءات مجتمع منحط وحضارة تموت، وهي الثمار الأولى للثورة الثقافيّة التي تجتث النصرانية من أميركا» مشيراً في الوقت نفسه لقول ويتيكر تشامبرز: «التاريخ يغص ببقايا مبعثرة من حطام الأُمم التي أصبحت غير مبالية بالله وماتت». ما سبق، جعل الغرب سواء أوروبا أو أميركا يعيش حالة رعب وخوف، بحسب ما خلص إليه بوكانن في الفصل الأخير من كتابه، لأنه يواجه خطر تغير شخصيته وتبخر وفقدان هويته بفعل موجات الهجرة الجماعية من شعوب تحمل ثقافة وعقيدة مختلفة، خاصة تلك القادمة من إفريقيا وآسيا، القارتين اللتين تواصلان النمو الديمغرافي بوتيرة أكبر وفق ما ذكره مكتب الإحصاء السكاني الأميركي (مجموعة غير ربحية تدرس وتنشر الأبحاث والبيانات الديموغرافية) قبل أيام بعد دراسته لبيانات العالم السكانية للعام الجاري، حيث توقع أن تقود إفريقيا عجلة النمو السكاني في العالم على مدى عقود مقبلة.