في مفتتح هذا الجزء أود الإشارة إلى حقيقة واضحة لكل دارس للتاريخ والحضارة ،وهي أن مذهب المثلية الجنسية المعاصرة كثقافة وفلسفة حياة : هو وليد غربي بامتياز ، أي انه مذهب ترعرع وأخصب ونما في تاريخ الغرب الحديث ( أوربا وأمريكا ) ، وأصبحت له جذور ضاربة في الحياة الغربية المعاصرة ، يملك مؤسسات ضاغطة سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا ، وقد ساعده على ذلك كما يوضح باتريك بوكانن – و هو سياسي ومفكر أمريكي معروف شغل منصب مستشار لثلاثة رؤساء أمريكيين- حيث قال في كتابه الهام :( موت الغرب) ساعده على ذلك : "الإطاحة بالنظام الأخلاقي القديم ". مما جعل البحاثة جفري باردنر يؤكد في نهاية كتابه ( الجنس في الأديان ) على أن :" الفوضى الجنسية هي جزء من مشاكل الغرب الخاصة " .أما باقي أمم العالم فالمثلية الجنسية كفلسفة حياة إنما تتبناها جمعيات وعصابات هي كيان دخيل فرض بقوة التدخل الغربي ومكره شأنه شأن العصابة الصهيونية في العالم الإسلامي ، حيث تتلقى الدعم المادي والقانوني من عصابات الضغط المثلي في أوربا وأمريكا ، دون احترام للخصوصيات الثقافة والحضارية والدينية لهذه الأمم ، مما سيمهد لاختراق غربي /استعماري جديد يشبه إلى حد بعيد فكرة حماية الأقليات المسيحية واليهودية ، وما أدرانا أن لا تتحول العصابات المثلية إلى طابور جديد يخدم السياسة الغربية بكل ما يملى عليه في بلادنا وبين ظهرانينا ؟؟ وهذا أمر لا شك فيه ، فإذا كان التشيع الجعفري مثلا يجعل ولاء أتباعه يُيَممُ شطر العتبات المقدسة ومراجعها المعممة في إيران ، فإن ولاء المثليين لا بد وان يُيَممُ شطر كعبتَيه في أوربا وأمريكا بلا ريب . هذه ملاحظة هامة كان من الضروري التذكير بها بسبب ما سيعترضنا من مفاهيم ورؤى مرعبة لا علاقة لنا كمسلمين بها وإذا كنت قد خصصت الجزء الأول لتحديد المفهوم والحديث عن تاريخ الظاهرة السدومية( راجع الجزء الأول/ موقع أخبارنا ) فهذا أوان الحديث عن أسبابها العميقة ودواعيها الأصيلة.
1- أسباب ظهورها وانتشارها في عصرنا : من المعلوم لدى الباحثين المتمرسين أن أسباب أي ظاهرة قد تكون متعددة ومتشعبة ، لا يكفي في فهمها وتحديدها ان نرجعها الى سبب واحد ونهائي ، وكذلك الشأن بالنسبة للسدومية المعاصرة ، حيث تصب روافد متعددة ثقافية واجتماعية ونفسية لتشكل نهرها الملوث ، وسأقتصر على ذكر أسبابها الرئيسة والكبرى دون الشعب الصغرى وهي اربعة: أ = الفلسفة الداروينية : فإذا كان العالم الطبيعي الكبير والمجتهد تشارلز داروين قد توصل من خلال أبحاثه العلمية المجردة الى نظرية التطور الطبيعي كفرضية قابلة للنقاش والنقد والاعتراض ، خاصة عندما ألقى التبعة عن كاهله حين اعترف - في الباب السادس والعاشر من كتابه (أصل الأنواع = ترجمة المجلس الأعلى للثقافة بمصر) – بانعدام الأشكال الانتقالية والأنواع المتوسطة في السجل الجيولوجي ، الأمر الذي يجعل نظريته في قفص النقد والنقض وربما الاتهام ، إذا كان هو نفسه أكد على ذلك إلا أن هناك تيارا ثقافيا وايديلوجيا اتخذ من نظريته فلسفة ركب أصحابه على موجتها ليجعلوا من تلك النظرية الافتراضية حقيقة علمية غير قابلة للنقاش او المساومة خاصة في المركز الغربي ، ليتخذوا من ذلك التزييف العلمي سندا لإلغاء حقيقة الربوبية والوجود الإلهي على أساس انها الحقيقة التي تمد الوجود البشري بقواعد أخلاقية دينية تجعل لكينونته معنى جديرا بالاحترام والتقدير والمسؤولية ، وإلغاؤها يستتبع ضرورة إلغاءَ الجانب الأخلاقي والفطري من حياة الإنسان والتطويح به في مَهمَه وفضاء البقاء للأقوى وفلسفة إرادة القوة والفردانية الطاغية التي تعض بالنواجذ على قانون " أنا ومن بعدي الطوفان "وتتمحور حول مقولة " افعل الشيء الذي يخصك " التي ستتحول إلى عرف أخلاقي حداثي بديل .....وكل ذلك ساهم في تغذية السدومية المعاصرة ومد جذورها بحرية في ارض المجتمع ....فما دام الإنسان من أصل حيواني فلا داعي للحياء او الحرج أو الكف عن الرجوع إلى الأصل بالطرقة التي نريد ، ولا عبرة باي حدود دينية او أخلاقية او أي معايير عقلانية أو اجتماعية او فطرية .
ب= الفلسفة العدمية /الظلامية : وهي تَفتِل في نفس حبل سابقاتها بل هي اشد واخطر وأقوى مراسا وباسا لأنها بنيت على مبدأين فلسفيين شرسين أولهما : موت الإله (=الإله المسيحي ) كما أعلن ذلك الفيلسوف العبقري نيتشه في كتابه " هكذا تكلم زرادشت " والمقصود حسب قراءتنا لفلسفته هو انهيار المثل الإنسانية العليا وتجريدها من كل قيمة موجهة للسلوك الإنساني ، لذلك نجد الفيلسوف والمناضل الفرنسي روجيه غارودي يقول في كتابه العميق " حفاروا القبور / مترجما : " عند الأغلبية العظمى من هذا الشعب مات الرب وهم لا يعلمون ، لان الإنسان استغنى عن أبعاده الربانية : السمو والبحث عن المعنى " .ذلك أن موت الإله بمعناه الفلسفي يعني انهيار الصرح الأخلاقي والقيمي الذي تقوم عليه الحياة والحضارة الإنسانية . وثانيهما : موت الإنسان : ، وهو موقف فلسفي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية بكوارثها الإنسانية والنفسية والبيئية والاجتماعية .....وما خلفته من جروح عميقة الغور في النفوس والعقول والافهام .....حيث تبنته التيارات الفكرية المنتقدة والمشككة في النزعة الإنسانية بل والمقوضة لها ، والتي أحالت الإنسان كمفهوم حضاري وتاريخي وأخلاقي إلى أسطورة لا معنى لها الآن وكأنها شيء هلامي لا هوية تحدده ولا شكل يجسده ، مما سيحوله إلى كائن بدون معنى وبدون غاية كريشة في مهب ريح صَرصَر عاتية ، وهو ما يجعل أفراد المجتمع مسكونين بغربة واغتراب ويأس قاتل ، يقول غارودي في هذا السياق وفي نفس الكتاب " تولد الرغبة البائسة للهروب من مجتمع بلا معنى ،نوعا من الجنون او التدمير أو على الأقل نسيان العالم وأنفسنا أيضا" ....مما يدفع الكثيرين إلى الفناء في كل مايشبع حاجاتهم الحيوانية والإغراق في كل ما يروي نزغاتهم الشهوانية ....وحين يتحقق لهم ذلك ينتقلون إلى خلق حاجات واختراعها في سلسلة لامتناهية من الرغبات السائلة في سباق محموم للهروب من معنى وجودهم الهلامي وغاية كينونتهم المغترِبَة في عالم تحكمه القسوة والبرود الأخلاقي والجفاف الروحي، ومن ضمن ذلك خلق السدومية كحاجة ....ونشرها كأسلوب حياة وموقف وجودي بل وعولمتها وتعميق جذورها الشيطانية في كل نشاطات الإنسان المعاصر كتعويض نفسي عن الفراغ الوجودي الذي يعوي في دواخلهم ...أي ابتداع رسالة وجودية لمن لا رسالة له ولا هدف في الحياة . ج = تأليه الجنس /السعار الجنسي : وقد روجت لهذه الفكرة مدرسة التحليل النفسي في نسختها الفرويدية الاولى ، والتي ساهمت في زحزحة المفهوم التقليدي للانسان كذات واعية لنفسها ولوجودها ومحيطها ليتحول من منظورها إلى مجرد طاقة" ليبيدية " غامضة لا معالم شخصية لها ، تسكن الكائن البشري كالاخطبوط الاسطوري الذي نكتشفه من آثاره دون أن نحيط بصورته الحقيقية المرعبة . حيث يقول عالم النفس الروسي إ.س.كون في كتابه الهام ( الجنس من الأسطورة الى العلم / مترجما ):"بخلاف الكثيرين من سابقيه نظر فرويد الى الجنس لا كناحية جزئية للحياة البشرية بل كأساس ومحور لهذه الحياة .....وكان هذا التفسير الموسع للرغبة الجنسية مدعاة لاتهام فرويد بتأليه الجنس " ...ورغم النقض العلمي لهذه الفكرة المتطرفة من قبل العديد من علماء النفس ومنهم تلاميذ فرويد الذين استقلوا عنه وعلى رأسهم " ثيودور رايك " ...رغم ذلك ..إلا أن جهات ثقافية وايديلوجية متعددة أرستها في المناهج التعليمية الغربية ، وفسحت لها المجال وسيعا للسيطرة والاستحواذ ، وهكذا ترسخت فكرة ان الإنسان لا يحقق ذاته فعليا الا من خلال الاشباع الجنسي بشتى ممكناته دون قيد من دين او أخلاق او أعراف اجتماعية وقانونية وحتى طبيعية ، وكانت مدعاة لانتشار فلسفة " البيليبوي "(= الانحلال والعبث ) في شتى مناحي الحياة الغربية . بل امتد الامر في خطورته ليظهر الاقتصاد / الإنتاج الإباحي ، خاصة صناعة الأفلام الجنسية التي زاد من طغيانها المستقبلات الرقمية والانترنيت الذي يحتوى أكثر من ستة مليون صفحة إباحية ، وتحتل منها الأفلام السدومية /المثلية قسطا كبيرا وهي في زيادة متطرفة ، تلهب نار السعار الجنسي وتنشر عدواه المأساوية نحو اكبر عدد من بني البشر ، دون اهتمام او مبالاة بما يسببه من أخطار على الصحة النفسية والجسدية وما يستتبع ذلك من أموال تهدر او تصرف لإزالة او النقص من تلك الأخطار الرهيبة . د = الاستغلال السلبي للحريات الشخصية وحقوق الإنسان : إذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 16 والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان في مادتها 12 وغيرها من المدونات والعهود القانونية والحقوقية قد اكدت حق الرجل والمرأة في الزواج وفي تأسس عائلة بالرضا الكامل والحر بين الزوجين ، الا ان اعتبار الإنجاب منفصلا عن الزواج وانه ليس شرطا أساسيا له ولا نتيجته الطبيعية قد فتح إمكانيات الزواج والارتباط الجنسي بين السدوميين /المثليين ومن يحسون أنهم ينتمون الى الجنس الاخر ؟؟/راجع روبير شارفان .كتاب : حقوق الإنسان والحريات الشخصية مترجما / . أقول : بل تجاوز الأمر هذا الحد الى اعتبار السدومية حقا قانونيا بعد المظاهرات التي قام بها السدوميون : " ففي بريطانيا سارت مظاهرة ضخمة إلى مجلس العموم البريطاني يتقدمها عدد من أساقفة الكنيسة ..؟؟ وأساتذة الجامعات ولفيف من كبار الشخصيات البريطانية للمطالبة بإباحة الشذوذ الجنسي وعدم اعتباره مخالفا للقانون . وبالفعل تم اقرار مشروع القانون في مجلس العموم بأغلبية 164 في مواجهة الرافضين وعددهم 107 ثم وافق مجلس اللوردات ايضا بأغلبية 94 ضد 49 ....ومما يثير الاشمئزاز ان ملكة بريطانيا منحت بعض السدوميين أوسمة رفيعة بدعوى انهم يساهمون في الرواج السياحي ويجلبون عملة صعبة ؟؟/من كتاب : النظام الدولي الجديد لياسر ابو شبانة / . واما في أمريكا فقد أصدرت ولاية كاليفورنيا قانونا يبيح الشذوذ الجنسي والمحافظة على حقوق الشاذين في المجتمع ، وقد صارت سان فرانسيسكو اكبر تجمع للسدوميين في العالم . وفي دول شمال أوروبا أصبحت الدومية من الأمور التي لا يعاقب عليها القانون. ومن اغرب المفارقات ان تنشر صحيفة الفاتيكان اليومية ( اوبرزفاتور رومانو) مقالة تتضمن تحليلا للأب نومينيكو كابوني - وهو رئيس معهد روما للاهوت الخلقي – لوثيقة بابوية حول الشذوذ تدعو الى حسن التعامل والتقبل للسدوميين ...ومن ثم فلا عجب أن تصبح لهم كنائس خاصة بهم لتسهيل عقود الزواج بين أعضائها ./ المرجع السابق / وطبعا لا زالت الشجرة الملعونة تمد فروعها وتخرج ثمارها النكدة عبر جغرافيا الغفلة البشرية ....واكبر دليل على ذلك انه صار للسدوميين في أمريكا حق تبني الأطفال كأبناء .....فأي قنبلة بشرية ننتظرها مع أولئك الأبناء ضحايا الحمق والضلال البشري ؟؟؟ ه = الفهم الخاطئ لمعنى الفردانية : إذا كانت الفلسفة الفردانية ظهرت كرد فعل على طغيان الحتميات الاجتماعية ، إلا أن الكثيرين اتخذوها حصان طروادة للغلو الطائش الذي يحول الشخص المفرد الى كائن مطلق تصدر من ذاته المواقف والسلوكات دون اهتمام بالآخرين من حوله . فهو كفرد لا كانسان مقياس كل شيء : هو المبتدأ وهو المنتهى وهو أساس كل حقيقة وجودية ، فكل ما يريده يجب أن يحققه وكل ما يشتهيه ينبغي ان يحصل عليه . وهذه الفردانية بمعناها الحيواني المبني على أساس البقاء للأقوى ومبدأ : أنا ومن بعدي الطوفان ....وليست هي الفردانية كمذهب فلسفي يعى الى تحقيق كرامة أفراد المجتمع الإنساني والتخفيف من دكتاتورية الجماعة المتسلطة بغير حق . وقد بنى السدوميون فلسفتهم المشؤومة بناء على المعنى المتوحش للفردانية الذي يتلخص في عبارة : افعل ما تريد . يتبع ...