الحلقة الأولى استضافت جمعية الأفق والتربية والثقافة والخدمات الاجتماعية بمكناس فضيلة الدكتور مصطفى بنحمزة، الأستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة، في محاضرة بعنوان عناية الإسلام بالشأن المدني، ولأهمية أفكار الموضوع في الوقت المعاصر تنشر التجديد نص المحاضرة نظرا لما له من حضور لدى المنشغيلن بالشأن المدني عبر حوارعلمي هادئ. وقد أشار الدكتور مصطفى بنحمزة في هذا اللقاء العلمي إلى الطبيعة الحوارية للمتشبع بالثقافة الإسلامية، مفصلا القول، في هذا الجزء الأول من المحاضرة، معنى الحديث النبوي: أنتم أعلم بأمور دنياكم، والذي اتخذه البعض مطية لتحجيم دور توجيه الإسلام في شؤون الناس الدنيوية، مؤكدا أن جرد الأحاديث النبوية من خلال الكتاب الحديثي يفصح على أن اهتمام الإسلام بأمور الدنيا وتوجيهها أكبر من اهتماماته بأمور العبادة والأحكام. ماذ نعني بالشأن المدني هذا اللقاء العلمي نحن في حاجة إليه لتتأسس عليه روابط إيمانية وأبعاد من التعاون الخير إن شاء الله، وبداية أشكر جمعية الأفق على استدعائها لي لأكون بينكم، ونتشارك الحديث حول الموضوع المختار، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. وقد اخترت أن أحدثكم عنبعض ما يمكن أن نتداوله في قضيةعناية الإسلام بالشأن المدني، وقصدي بالشأن المدني في هذه المحاضرة بالذات هو ما يقابل الشأن الديني، لأن المدني، الذي هو نسبة إلى المدينة، قد يطلق في مقابل العسكري، فيقال: العسكري والمدني، وقد يطلق مقابل ما هو سياسي، ومنه المجتمع المدني، وقد تكون له إطلاقات أخرى، وللناس أن يستعملوها كما يشاؤون وحسب تخصصاتهم. لكن أريد أن أضع كلمة ما هو مدني في مقابل ما هو ديني، ونحن لا نتحدث على عناية الإسلام بما هو ديني وأخروي، لأن هذا ليس محل نزاع ومناقشة، ولكن سنتداول الأمر حول قضية اهتمام الإسلام بما هو غير ديني بالمفهوم غير الإسلامي، وإلا فإن ما هو ديني يستدعي كل ما هو دنيوي، فالمفهوم الإسلامي يضم كل شيء، ولكن دعنا نعتمد ما هو ديني بمرجعيته التي أصبحت رائجة، وهي ذات جذور غربية تقابل الدين بالدنيا، وتقابل ما هو أخروي بما هو مدني. لا نخاف الحوار فإذا كان غير المسلمين لا ينازع ولا يناقش كون الإسلام اهتم بالشأن الديني، فحدد العبادات ومقاديرها وكيفيتها، وحدد كل ما يتعلق بالله تعالى، فإننا الآن أمام قضية جديدة، هي هذا التساؤل العريض الذي يجب أن نجيب عنه بصدق وبدقة وموضوعية، ونحن نريد أن ندخل مع مجتمعنا في حوار اجتماعي، ونريد ألا نقصى من مجتمعنا، وألا نحجم وألا يضيق علينا، وألا ننزوي في زاوية، على أننا نمثل توجها دينيا، وأن هذا التوجه الديني أصبح يعني التطرف، وأصبح يعني الشيء الذي يجب أن يحجم ويحاصر. نحن الآن مدعوون للدخول في هذا الحوار، ونحن أيضا بما تلقيناه من تربيتنا الإسلامية، لا نخاف الحوار، ولا نفر منه، لأن الحوار جزء من هذا الدين. إن طبيعة الإنسان المسلم هي طبيعة حوارية، كما أن التكوين الذي يتكون عليه الإنسان في الثقافة الإسلامية هو تكوين حواري، ألا ترون أن علماءنا، خاصة علماء مقاصد الشريعة، يقولون: إن المجتهد وهو يقع على النصوص والأدلة التي تؤيد رأيه، فإن هذا المجتهد يطلب فيه أن يبحث أو أن يتوهم وجود مخالف له، أي أن العملية التشريعية الاستنباطية هكذا تتم. لو انقدح في نفس المجتهد دليل ورأى أنه يؤيد قوله وفتواه، عليه أن يتوهم وجود مخالف لذلك الدليل، وأن دليله الأول لا يسلم له حتى يستطيع أن يرد على الدليل الذي انقدح في نفسه، بمعنى أن دليله ليس سالما بإطلاق، بل هو محتاج أن يعارضه بدليل آخر، فإذا عورض بدليل ونقض ذلك الدليل يكون القول الأول صحيحا. وهذه عملية قام بها جميع المجتهدين في تاريخ هذه الأمة، أي أن الدليل الواحد لا يقوم عليه التشريع، إذن فلا بد من حوار، وإذا قرأتم كتابا من كتبنا الإسلامية يجب أن يطلع عليها من يتهموننا بأننا جامدون، وأننا نقرأ ثقافة محنطة، فسترون أن الكتاب نجد فيه قول صاحبه: أقول كذا وكذا، وعقب ذلك يقول: فإن قال المخالف كذا وكذا، رددنا عليه وقلنا له كذا وكذا، فداخل الكتاب لا تجد تقريرا، بل تجد حوارا، وهذا الحوار مشروع وتحدث عنه علماؤنا، وقالوا إنه شرط ضروري لسلامة الأقوام وصحة الأقوال. فنحن من هذا الجانب لا نخاف الحوار، وكتاب الله أثبت جميع المقولات الزائفة التي قالها المشركون، أثبت قول السفهاء، (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب)، (وقال الذين لا يرجون لقاءنا...)... فكتاب الله ذكر أقوال المخالفين وفندها ورد عليها. فطبيعتنا الثقافية إذن طبيعة حوارية، فلسنا منغلقين أبدا ولا يستطيع أحد أن يتهمنا بالانغلاق ثقافيا، لأنا كنا دائما نؤمن بالحوار، ونمارس الحوار، والحوار جزء من ديننا. نحو حوار موضوعي هادئ فنحن المسلمون مطالبون الآن أن ندخل هذا الحوار مع مجتمعنا وجميع مكوناته وروافده ومع الثقافات، وندعوها إلى حوار موضوعي وهادئ، وإلى حوار لا تبرز فيه الذات لنصل إلى الحقيقة، إننا الآن أمام مصطلحات ستكون لها خطورتها على المستقبل الثقافي للأمة إن لم يوضع لها حد، وتحدد منذ الآن. فنحن نتحدث اليوم عن إسلاميين، وعن الإسلام السياسي وغير السياسي، نحن نتحدث عن المستنيرين من العلماء وغير المستنيرين، نتحدث عن التطرف والإرهاب، هذه ألفاظ ضخمة يجب أن نحسم فيها الموقف، ونوضح الموقف الشرعي منها، ونبرز للناس ما هو المطلوب منهم حتى يتقاربوا. إننا نسمع كثيرا عن الإسلام السياسي في مقابل الإسلام غير السياسي، وتكتب في هذا المقالات، ولا يقف الأمر عند هذا الحد. نحن نجد أنفسنا، ويوشك أن نكون غرباء على أرضنا، لأننا نؤمن أن بعضنا أو البعض الآخر، اختص بقدرته وصلاحيته وأهليته لمحاكمة كل من يخالف رأيه. إن أناسا يصلون وراء خطيب، وليس الخطيب مسؤولا إلا عن شيء واحد هو أن يكون قوله مدعما بكتاب الله وصحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحاكمونه غدا برموز وحروف، مثل كتب ضده (ن)، والخطيب الفلاني تجاوز حدوده فتكلم في ما لا يعنيه، وتكلم في أمر ليس من اهتمام الدين، وتكلم في أمر سياسي، فهذه الظاهرة كثرت، وأصبحت تحتل مساحات كبيرة في ما ينشر في وسائل الإعلام. وإذا تفاحشت هذه الظاهرة، ولم نحدد لها حدودا، فإننا سنقع في أخطار كبيرة جدا، وسوف نحاصر جزءا كبيرا من مكونات الأمة، وهم أصحاب التوجه الديني. نحن نسمع كلاما كثيرا من هذا القبيل، ونسمع أطفالا في الشوارع وعلى أعمدة الصحف، يقولون: وما لكم والشأن المدني والأمور المدنية، ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للناس: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وهذا الحديث يضعكم في حصار وحظيرة لا يستطيع الواحد الخروج منهما. فالأمر الديني ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من أمر صاحب هذه الشريعة أن يتكلم فيه. حقيقة أنتم أعلم بأمور دنياكم" تعلمون أن هذا الحديث إذا كتب الآن لكتب بحروف غليظة لوضع فوق بنايات ضخمة، يوشك أن يكون هذا شعارا، ونحن لا نقول لهم ما المراد بهذا الحديث الآن، لكننا نسألهم أسئلة موضوعية: أتتصورون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد هذا المعنى؟ وهو الذي يتحدث عن أمور دنيوية كثيرة، وهو الذي يقول من أحيا أرضا ميتا فهي له، ويقرر أن الأرض الموات حق لمن يزرعها ويحييها، ويتحدث الفقهاء في خلاف طويل عن الأرض التي تكون مواتا، فيقول البعض هل تحتاج هذه الأرض الموات إذا أردنا إحياءها إلى إذن من السلطة؟ أم أن هذه فتوى؟ وهل قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم بوصف الإمامة العظمى؟ أو قالها بوصف الفتوى؟ فهل هي فتوى لجميع الناس، وأي إنسان وجد أرضا الأمر فيحييها فتكون له؟ أم أنه قالها بوصفه رئيس الدولة؟ فيحتاج الأمر إلى موافقة الدولة. الفقهاء تنازعوا في هذا، وقال الإمام مالك: إن الأرض تختلف بين أن تكون مزهودا فيها ومرغوبا فيها، فإذا كانت قريبة من المدن فتحتاج إلى إذن، لأنها مرغوب فيها، وإذا لم تكن كذلك فإنها تحيا وتكون بعد ذلك لمن أحياها ولو بلا إذن. والسؤال كيف تحيا الأرض الموات؟ الفقهاء أيضا يقولون: إن إحياء الأرض الموات لا يكون بالزراعة الموسمية، وإنما يكون بإجراء الأنهار والسواقي فيها، وحفر الآبار بما يفيد أن الزرع ثابت وقار. إن الذي يقول للناسأنتم أعلم بأمور دنياكم، هو نفسه الذي يقول ويوجه إلى أن من أحيا أرضا ميتة فهي له، وهو أيضا الذي يقول إن الشفعة في العقار تكونفي ما لم يقسم، وذكر أسبابها وكيف تكون، وهو الذي يتحدث عن تطبيق الحدود وعدم الشفاعة فيها، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. إن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث في أبواب كثيرة، تحدث في الربا وبين ما هو، والذي قرأ الأحاديث النبوية علم ما هو ربا الفضل وما هو ربا النسيئة، وما يقبل الربا وما لا يقبله، مما يستغرق جهدا كبيرا ليعرف. وهو أيضا من بين أن من يشتري طعاما فيجب أن ينزله إلى السوق وإلى دكانه، بمعنى أن الإنسان الذي يشتري طعاما لم يصل إلى السوق يمكنه أن يببيعها مرة أخرى، فيباع الطعام مرات قبل أن يباع في الأسواق، فهذا خرج الناس إلى الدكاكين والأسواق لم يجدوا طعاما يقع اضطراب ويختل الأمن، وهذا الذي نهى عن بيع الطعام قبل قبضه كان يريد تحقيق الأمن الغذائي. وهو الذي نهى عن تلقي الركبان، لأنهم لا يعرفون الثمن، وهو أيضا الذي نهى عن بيع المضامين والملاقح وحبل الحبلة وأشياء كثيرة من الضراب وما يتعلق بالحيوانات، فكيف يتم إلغاء هذه الأشياء الكثيرة، فكروا كيف يقرأ المرء حديثا واحدا قراءة سقيمة، ليخلص أن رسول الله لا شأن له بالأمر الدنيوي لقولهأنتم أعلم بأمور دنياكموانتهى الأمر، وفعلا لم نكن أعلم بدنيانا لأننا تناولنها فأفسدناها. لا دنيا نعلمها ولا آخرة نتقنها إن الذي يقول أنتم أعلم بأمور دنياكم ويتبرأ هو أن يسير الدنيا يفوضها إلى أناس أفسدوا الذمم، خربوا كل شيء، باعوا البشر، زوروا الانتخابات لمن يقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم، هل الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم يترك أؤلئك يتصرفون كما يشاؤون، وأنا هنا أضع بين أيديكم إشكالا: وهو أن عندنا بناء ضخما من الحديث ومن المساطر التي لا تتصل بأمر من أمور العبادة، بل كلها أمور تتحدث عن البيوع وعن الشركة وعن الإقالة وعن التولية، وكلها مؤسس على أحاديث نبوية، لو رجعتم إلى كتب الحديث، ونظرتم إلى فهارسها ستجدون أن أمور العبادة لا تستهلك إلا جزءا يسيرا، فالمناسك والشرائع الدينية هي جزء قليل في الكتاب الحديثي. إن الكتاب الحديثي يتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة والإجارة... كل ذلك يلغى بحديث واحد، وهذه هي الموضوعية، بزعم أن لكم الآخرة واتركوا لنا الدنيا، ورغم ذلك فقد ضيعت الحرمات، وذهبت فلسطين وكل المقدسات، وصرنا يشار إلينا بالبنان، ومع ذلك نتبجح ونقول: نحن أعلم بأمور الدنيا، وليتنا نعلم شيئا من أمرها، فلا الدنيا نعلمها ولا الآخرة نتقنها. لقد أردت أن أقول أيها الإخوة، إن كتاب الله تعالى الذي هو المصدر، هو الذي جاء بأحكام لا يمكن أن يقول فيها أحد إن فيها إضافة وأن هذا ضعيف وهذا قوي، لقد قيل إن فيه آيات هي آيات الأحكام وهي خمسمائة آية، ومنها آيات يستشف منها أحكام كثيرة، منها ما يتعلق بالحرب والسلم والهدنة والمواثيق وكل مناحي الحياة. وأحيل كل إنسان عاقل، يوجه عقله، أن ينظر إلى آيات الأحكام، هل ممكن أن ينسحب كتاب الله من الشأن المدني؟ غريب جدا أن يشيع هذا الخطأ الفادح، وأكبر خطإ هو تحجيم الإسلام، ووقفه في إطار معين لا يتجاوزه، وإذا تحدث في خارج ذلك النطاق قيل له إنه متطرف. الدكتور مصطقى بنحمزة ملحوظة: ألقيت هذه المحاضرة في فبراير من سنة,2002 مع الشكر للأستاذ عمر أبو لبيب الذي وافى التجديد بشريط المحاضرة. أعدها للنشر:ع.لخلافة ت