خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة آخر الشهر المنصرم لم يفجر أية قنابل، بل كان مجرد "ناقوس خطر"، كما قال فيه، دقه لتحذير المجتمع الدولي من أن "ما يحدث في القدس" يمكنه أن "يحول الصراع من سياسي إلى ديني ويفجر الأوضاع في القدس وبقية الأرض الفلسطينيةالمحتلة" وهو ما يحرص على منعه. إن عباس في خطابه بدا حريصا على نزع فتيل القنابل الكامنة في الوضع الفلسطيني أكثر من حرصه على تفجيرها. وردود الفعل الفلسطينية والإسرائيلية على خطاب الرئيس عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة آخر الشهر المنصرم معيار هام للحكم على ما إذا كان عباس قد فجر أو لم يفجر "قنبلة" كان قد هدد بتفجيرها في خطابه. فالفلسطينيون يجمعون على نجاح عباس في توصيف الوضع الراهن للقضية الفلسطينية والحال القائم في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، ويؤيدون جهوده لإبقاء قضيتهم العادلة وكفاحهم الوطني على جدول الأعمال الأممي وسط انشغال دولي بقضايا دولية وإقليمية أخرى طغت عليها حتى أسقطتها من جداول أعمالهم أو في أحسن الأحوال وضعتها في آخر القائمة، لكنهم يأخذون عليه اكتفاءه ب"التهديد" بأفعال غير محددة يرفض تحديد مواعيد ملزمة لتنفيذها وفشله في إعلان أية إجراءات ملموسة تبني على وصفه الناجح للوضع الفلسطيني القائم. وقد لخص مستشاره وقاضي القضاة الشرعيين محمود الهباش خطاب عباس عندما صرح لوكالة "معا" قائلا إن "الرئيس لم يعلن إلغاء الاتفاقيات" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وأوضح بأن ما هدد الرئيس به في خطابه "لا يعني أنه سينفذ غدا". أما عضو الكنيست الإسرائيلي عن "حزب التجمع" العربي جمال زحالقة، في مقال له يوم الجمعة الماضي، فقد عدد ما لم يقله عباس في خطابه قائلا إن الرئيس الفلسطيني "لم يعلن … عن حل السلطة وتحميل إسرائيل مسؤوليات" القوة القائمة بالاحتلال، و"لم يجزم الرئيس بإلغاء اتفاقيات أوسلو، كما أشاع بعضهم، بل ألمح إلى التزامه بها" على أساس تبادلي، و"لم نسمع من الرئيس قولا واضحا بشأن التنسيق الأمني الذي أصبح عاملا مركزيا في إطالة عمر الاحتلال"، و"لم يدع أبو مازن إلى فرض عقوبات على إسرائيل وفرض المقاطعة عليها"، و"لم يهدد أبو مازن باتخاذ خطوات دراماتيكية لإنقاذ المسجد الأقصى واكتفى بوصف الحال وكأنه مراقب". أي أن الاتفاقيات الموقعة ما زالت سارية المفعول، والتنسيق الأمني معمول به، وسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية باقية على حالها من دون سلطة، والسعي إلى استئناف مفاوضات متعددة الأطراف ما زال جاريا وقد "رحب" الرئيس عباس في خطابه "بالجهود الدولية والأوروبية بما فيها المبادرة الفرنسية" في هذا الشأن، ولهذا الغرض اجتمع وزراء خارجية الرباعية الدولية مع عدد من نظرائهم العرب والأوروبيين في نيويورك الأربعاء الماضي وخلال أسبوعين سوف يصل وفد من الرباعية الدولية إلى فلسطينالمحتلة وتخطط ممثلة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديركا موغريني لزيارة مماثلة قريبا لذات الغرض. وبينما يستمر عباس في تكرار "الرجاء" للمجتمع الأممي لتوفير "حماية دولية" لشعبه يستمر كذلك في ارتهان تأليف "حكومة وحدة وطنية" للقبول ب"برنامج منظمة التحرير الفلسطينية"، كما قال في خطابه، في حين لم يحدد بعد موعد لانعقاد المجلس الوطني للمنظمة. وكان الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة قد صرح قبل سفر عباس إلى نيويورك قائلا إن الرئيس "إذا وجد أملا ولو ضئيلا لاستئناف المفاوضات فلن يضيعه" وإنه هدد بتفجير قنبلة حتى يتحرك المجتمع الدولي فإذا تحرك لا داعي لتفجير أي شيء. ومن الواضح أن البيان الذي أصدرته الرباعية الدولية في الأول من الشهر الجاري تعهد بتحرك عاجل، وباتخاذ "خطوات ملموسة" كما قالت فيديركا موغريني، في هذا السياق، مانحة عباس أكثر مما وصفه أبو ردينة ب"امل ضئيل" باستئناف المفاوضات. وخلاصة كل ذلك أن "الوضع الحالي" الفلسطيني مستمر على حاله وليس "غير قابل للاستمرار" كما قال عباس في خطابه. لذلك كان متوقعا أن تكون ردود فعل دولة الاحتلال على خطابه لفظية وتهديدية بالمثل، وربما يكون مراسل "هآرتس" العبرية باراك رافيد قد أحسن تلخيصها عندما كتب الأربعاء الماضي بأن عباس "ألقى قنبلة حقا … لكن السؤال الذي يظل من دون جواب هو ما إذا كنت هذه القنبلة سوف يتم تفجيرها على الفور لتخلق موجات صدمة خطيرة، أم ستظل ملقاة هناك كقنبلة لم تنفجر ويمكن أن تنفجر في أية لحظة، أو يتبين أنها ليست قنبلة على الإطلاق"، ليخلص رافيد إلى القول إن خطاب عباس كان "مجرد تهديد"، لأن عباس "لم يحدد تاريخا" للتوقف عن الالتزام بالاتفاقيات مع دولة الاحتلال ولا حدد "أي الاتفاقيات" كان يقصد و"ما إذا كان التنسيق الأمني من ضمنها". لقد كرر عباس في خطابه تهديدات سابقة لوّحت بتسليم "مفاتيح" سلطة الحكم الذاتي للاحتلال، وبإعلان اتفاقيات أوسلو الموقعة معها منتهية، وبوقف التنسيق الأمني معها، وهذه جميعها وغيرها قنابل حقيقية يمكنها إن تحققت أن تفجر الأرض تحت أقدام قوات الاحتلال ومستعمراته ومستوطنيه، لكن خطاب عباس، على سبيل المثال، خلا من أي ذكر ل"التنسيق الأمني"، ربما لأنه سبق له أن وصفه ب"المقدس"، بالرغم من إشارته إلى "قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في آذار/ مارس الماضي" التي قررت وقفه ووصفه لتلك القرارات بأنها "محددة وملزمة". إن إعلان فلسطين في خطاب عباس "دولة تحت الاحتلال" وإعلانه عدم الالتزام بالاتفاقيات الموقعة يفترض منطقيا أن يكون دعوة للمقاومة، ما يقتضي وجود أي حكومة فلسطينية تحت الاحتلال إما في سجون الاحتلال، أو تحت الأرض، أو في المنفى، وإلا ستكون حكومة ظل للاحتلال، لكن خطاب الرئيس لم يتطرق إلى أي شكل من أشكال المقاومة. لقد كان رفع علم فلسطين أمام مقر الأممالمتحدة فتحا في العلاقات العامة الفلسطينية، لكنه يظل إختراقا رمزيا يحتاج إلى استراتيجية فلسطينية جديدة لتحويله إلى إنجاز ملموس على الأرض المحتلة. وهذا الانجاز الإعلامي ليس كافيا كي يحجب عن الشعب الفلسطيني حقيقة ان قضيته قد غُيبت تماما في الدورة السبعين للأمم المتحدة، بحيث كان خطاب الرئيس عباس مجرد صوت فلسطيني صارخ في بريّة سياسية لا حدود لها، فنصوص خطابات القوى العظمى الفاعلة في المنظمة الأممية والدول العربية المفترض أنها المعنية الأولى بما سمي "عملية السلام" قد خلت تماما من أي إشارة لها. فالرئيس الأميركي باراك أوباما لم يذكر في خطابه لا "فلسطين" ولا "إسرائيل" ولا "القدس" ولا "الاحتلال" ولا "عملية السلام في الشرق الأوسط" ولا "حل الدولتين"، بما يرقى إلى منح دولة الاحتلال ضوءا أخضر للاستمرار في فعل ما تريد فعله في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة من دون أي خشية من أي توقف للدعم العسكري والأمني والحماية السياسية والدبلوماسية الأميركية لها. ومثل أوباما فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه. ومثلهما فعل البابا فرنسيس الأرجنتيني المولد الذي يرأس أكبر الكنائس المسيحية، ويبدو أن أصله الايطالي قد دفعه إلى إسقاط القدس، العاصمة الروحية للمسيحيين جميعا، من خطابه ربما كي تظل ايطاليا حاضنة للفاتيكان كعاصمة روحية وسياسية لهم بدلا من القدس. ولم يكن الحال أفضل كثيرا مع الدول العربية الثلاث الأكثر تماسا مع فلسطين وقضيتها، حيث تم التطرق لها في سياق محاربة الإرهاب والسعي إلى "السلام" فحسب. فالإشارة الوحيدة في خطاب العاهل الأردني عبد الله الثاني كانت إلى "مدينة القدس، حيث الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية واجب مقدس" قبل أن يرفض "التهديدات التي تتعرض لها الأماكن المقدسة والهوية العربية لهذه المدينة". ولم ترد كلمة "الاحتلال" في خطابه. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أكثر إسهابا قليلا، فتحدث في خطابه عن "القضية الفلسطينية العادلة" داعيا إلى "تسويتها" و"تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس"، مضيفا أن "ما يشهده القدس والحرم القدسي الشريف لدليل على أن التوصل إلى السلام ما زال يواجه صعوبات وتحديات". ولم ترد كلمة "الاحتلال" في خطاب السيسي أيضا. أما المغرب التي ترأس لجنة القدس ممثلة لمنظمة التعاون الإسلامي فإنها لم تجد في "ما يشهده القدس والحرم القدسي الشريف" سببا كافيا كي ترفع مستوى تمثيلها إلى الدورة السبعين للأمم المتحدة ليرأس الملك محمد السادس وفدها بدلا من مولاي رشيد. والتهميش والتغييب الحالي للقضية الفلسطينية كانت له سابقة في أعقاب نكبة عام 1948، عندما أزيلت فلسطين من الخرائط الجغرافية ومحيت هويتها الوطنية وأخرج عربها من المعادلات السياسية الدولية والإقليمية، فكان "العمل الفدائي" و"الكفاح المسلح" هو السبيل الوحيد لإعادة فلسطين إلى خريطة العالم. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، لا يجادل أحد في أن الرئيس عباس صادق مع نفسه ووفيّ لتاريخه. فهو لم يطلق رصاصة في حياته ويتباهى بذلك، وفي ذروة مرحلة "الكفاح المسلح" التي أوصلت حركته "فتح" إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كان يدعو إلى التواصل والتفاوض مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعندما وصل إلى قيادة "فتح" والمنظمة معا أسقط البندقية التي كان سلفه ياسر عرفات يحملها بيد وحمل بكلتا يديه "غصن الزيتون" الذي كان عرفات يحمله باليد الأخرى. إن تهديدات عباس المكررة هي بالتأكيد "قنبلة" لكن لم ينزع أمانها لذلك فإنها لم تنفجر وتحولت إلى مجرد قنبلة دخانية للتغطية على مواصلة استراتيجيته التفاوضية وسوف ترتد على الأرجح سلبا على صدقية قيادته عندما يتبدد دخانها فتتكشف عن كونها مجرد قنبلة صوتية لا صدى لها على أرض الواقع في الوطن المحتل ومجرد مجاز لغوي استعار من لغة المقاومة التي تحظى بشعبية واسعة لدى شعبه للتعمية على استراتيجيته التي تعتمد محاربة المقاومة والتفاوض ركنين أساسيين لها. ***