تعتبر الأحداث التي عرفتها العاصمة الإسبانية مدريد من بين أخطر الأحداث الدموية التي عرفتها أوربا في العقود الأخيرة، لأنها ضربت أولا في عمق التراب الإسباني واستهدفت ثانيا بشكل دقيق وخطير مصالح حيوية في إسبانيا على غرار عمليات 11 شتنبر بالولاياتالمتحدةالأمريكية. وتتجلى خطورة أحداث مدريد أيضا في أنها من تدبير خارجي، حيث إن جل المعتقلين من المغاربة والمسلمين، خلافا لما تعودت عليه إسبانيا من تلقي ضربات إيتا الباسكية. ويلاحظ أن كل الأسباب قد اجتمعت من أجل دفع إسبانيا إلى تحميل المغرب المسؤولية المعنوية عما جرى، خاصة إذا استحضرنا التوترات التي يعرفها البلدان الجاران، وتنافسهما المستمر حول قضايا إقليمية واستراتيجية. فقد كان من الممكن لإسبانيا أن تستغل الأحداث استغلالا سياسيا بتوجيه المسؤولية المعنوية للمغرب وللجاليات العربية والمسلمة بها، ولتشويه صورة الإسلام والمسلمين، كما حدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أعقاب هجمات الحادي عشر من شتنبر، كما كان من الممكن أيضا أن تعتمد إسبانيا مقاربة أمنية يتضرر منها العرب والمسلمون، وتستخدم كما فعلت أمريكا قانونا شبيها بقانون الأدلة السرية، وتفتح معتقلات غير قانونية مثل معتقل غوانتانامو. ورغم أن البلدين معا تعرضا لأحداث دامية، إلا أن الطريقة التي تعاملت بها إسبانيا في معالجة آثار 11 مارس اختلفت عن الطريقة المغربية في معالجة أحداث 16 ماي، خاصة على المستوى السياسي والأمني والتحقيقات القضائية، مما يبرز أن العالم الثالث يختلف عن العالم الغربي، حتى في تدبير الأزمات، والردود السريعة إزاء الكوارث والأحداث الخطيرة. طريقة إسبانيا في تعاملها مع أحداث 11 مارس لقد مرت عشرون يوما على أحداث مدريد، التي أودت بحوالي 201 قتيلا وما يقرب من ألفي جريح، ومازالت مصالح الأمن الإسباني، لم تتوصل بعد إلى توجيه أصبع الاتهام لجهة معينة، ولم تفصح بعد عن أسرار التحقيقات، ورغم فداحة الخسائر المترتبة على هذا الحدث الدامي، إلا أن هذه المصالح مازالت تتبع ملابساته بكل تؤدة، وذلك احتراما للقوانين التي تعمل بها.. ولم نسمع لحد الساعة أن جهة حقوقية ما قامت تندد بعشوائية الاعتقالات أو بالتجاء الأجهزة الأمنية إلى الأساليب الممنوعة قانونا مثل الاعتقال القسري أو انتزاع الاعترافات القضائية تحت وطأة التعذيب والإكراه. ويلاحظ أن التحقيقات القضائية تأخذ سيرها العادي ومجراها القانوني، غير متأثرة بما يحيط بها من تصريحات إعلامية أو سياسية، مع الإشارة إلى أنه إلى حدود الساعة، فإن المعلومات المتداولة، حول التحقيقات الجارية بشأن اعتداءات مدريد، تبقى في أغلبها منقولة عن مصادر إعلامية، إسبانية بالخصوص، أو من تسريبات مخابراتية أو سياسية، دون أن تكتسي طابع المعلومات الرسمية المعلنة من لدن جهات قضائية التي تتابع التحقيقات. وإلى حدود الساعة، فقد اعتقلت المصالح الإسبانية ما يقرب عن 20 معتقلا، أفرج عن البعض منهم، ورغم أن جلهم من أصول غير إسبانية، إلا أن التحقيق القضائي مازال مستمرا، دون إثارة للنعرات العنصرية، اللهم بعض الحالات المحدودة، ولحد الآن لم يقدم الشعب الإسباني على أي مبادرات انتقامية من شأنها أن تأجج نار العنصرية بأوربا تجاه المسلمين أو العرب، على اعتبار أن جل المعتقلين هم من أصول عربية ومسلمة. وقد كان من تأثيرات أحداث مدريد الدامية فوز الحزب الاشتراكي، الأمر الذي أشاع نوعا من الارتياح لدى كثير من الأوساط السياسية في العالم، وخاصة في المغرب، من أن الحكومة الإسبانية ستلتزم التعقل والحكمة في معالجة آثار الحادث الدموي، وبالفعل بدأ الحديث عن مقاربة جديدة لمكافحة الإرهاب، تركز بشكل أقل على المقاربة الأمنية، في حين تعطي أهمية أكثر لاستئصال الظلم الاجتماعي والاقتصادي، الذي يحول الدول الاسلامية أرضاً خصبة للارهاب. ففي تصريح سابق للناطق باسم الحزب الاشتراكي للسياسة الخارجية ميغيل أنخل موراتينوس قال إن: علينا أن نهزم الإرهابيين سياسيا، وأشار بأن أفكار زاباتيرو، رئيس الحكومة الحالية، شبيهة بتلك التي أعلنها وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، الذي دعا إلى اتفاق أوسع مع العالم العربي سعيا إلى تعزيز الديموقراطية والتطور الاقتصادي والثقافي.. ولكن في إطار العلاقة التي تربط المغرب بإسبانيا، فكان من الممكن أن تستغل هذه الأخيرة أحداث مدريد، لتوظيفها في مزيد من التأثير على السياسة الخارجية المغربية، لإعادة ترتيب بعض القضايا التي تشغل البلدين كمشكل الهجرة والشراكة الاقتصادية وغيرها من القضايا الهامة.. تأثر المغرب من أحداث مدريد" كانت أولى تأثيرات أحداث مدريد على المغرب هي تحريك الأجهزة الأمنية المغربية من جديد، حيث شنت حملة واسعة لاعتقال بعض المشتبه في وجود علاقة لهم بالأحداث الدامية التي عرفتها العاصمة الإسبانية مدريد، يوم 11 مارس الماضي، تجاوبا أوتعاونا مع إسبانيا في مكافحة وملاحقة العناصر الإرهابية، التي كانت وراء تدبير الحادث، وقد عبر نبيل بنعبد الله، وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية يوم الجمعة الماضي، صراحة على هذا التعاون في لقاء له مع الصحافة، وأوضح أن المغرب يتعاون بقوة مع مصالح الأمن الإسبانية في تحقيقات اعتداءات مدريد، وأنه ملتزم بمكافحة الإرهاب الدولي، مضيفا أن التحقيقات متواصلة على قدم وساق في إطار الانخراط الكامل والحازم للمغرب في المعركة من أجل مكافحة الإرهاب الدولي. لكن هذا الانخراط الكامل والحازم ينبغي أن لا يكون على حساب الحريات العامة للمواطنين، بل أن يأخذ بعين الاعتبار القوانين المعمول بها في البلاد، أسوة يإسبانيا نفسها. ويتضح أن المغرب وجد نفسه مرة أخرى منخرطا بشكل قوي في قضايا مكافحة الإهاب الدولي، كما انخرط، في أحداث 11 شتنبر ,2001 وكان مطالبا في كل مرة بتقديم الملفات الأمنية والبيانات الكاملة حول الأشخاص والهيئات. وقد أعلن وزير الاتصال المغربي بن عبد الله، في تصريح سابق له، أن مسؤولين من الأمن المغربي سيتوجهون إلى مدريد للمشاركة في التحقيق في الاعتداءات الإرهابية، مؤكدا أن عددا من الناس استجوبوا، وأن أجهزة الأمن تقوم بتحقيق معمق معهم قبل إحالتهم على النيابة العامة. وإذا كان من غير المتصور أن يعترض عاقل أحد على هذا التعاون، خاصة وأن ظاهرة الإرهاب تهدد الجميع، واحتمال كبير لوجود علاقة بين أحداث الدارالبيضاء وأحداث مدريد، مما يقضي بحثا مشتركا عن السبل الناجعة لاستئصاله، لكن أن تكون الاعتقالات التي تمت حتى الآن في المغرب أكثر بكثير من الاعتقالات التي أقدمت عليها إسبانيا، وهي التي فقدت 200 قتيلا ولها ما يقرب من ألفي جريح، من جراء الأحداث الدامية الأخيرة.. فإن ذلك يطرح تساؤلات عديدة حول طبيعة الاستراتيجية التي ينتهجها المغرب في تعاونه مع إسبانيا. وسيكون هذا التعاون الأمني مفيدا لو أن المغرب يتبع الأسلوب نفسه الذي تتبعه إسبانيا في إجراء التحقيقات، بعيدا عن كل ما يمس القانون ونزاهة القضاء.. الطريقة التي تعامل بها المغرب مع أحداث 16 ماي الآن وبعد مرور سنة تقريبا على أحداث 16 ماي، التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء، والتي أودت ب 45 قتيلا، ومقارنة مع التعامل الإسباني مع الأحداث الأخيرة، فإنه يمكن إبداء الملاحظات التالية: على المستوى الإعلامي والسياسي: شنت منابر صحفية وإعلامية مغربية، عقب أحداث الدارالبيضاء، حملة إعلامية كانت في جلها حملة إعلامية مغرضة، استهدفت أساسا الحركات الإسلامية وحزب العدالة والتنمية، محملة إياه المسؤولية المعنوية لما حدث، وانخرط في هذه الحملة وزراء وصحفيون ونخبة من الاستئصاليين، لتصفية حسابات سياسوية، قبيل الانتخابات الجماعية التي جرت في 12 شتنبر من العام الماضي. لكن رغم هذا التحامل المكشوف، أبان الشعب المغربي، بالإضافة إلى السلطات العليا المغربية، عن وعي كبير وحس وطني عال، ولم ينسق مع الدعوات الاستئصالية، بل يمكن القول إنها أحدثت ردا عكسيا، وصار حديث الخاص والعام عن استغلال الأحداث لاستهداف الحزب المذكور بدون وجه حق. وشبيها بذلك وقع بإسبانيا أخيرا، حيث حاولت حكومة أثنار توجيه الاتهام إلى منظمة إيتا، لكن الشعب الإسباني مارس حقه الديمقراطي في معاقبة حكومته بعدم التصويت عليها، احتجاجا على انسياق الحكومة الإسبانية وراء أمريكا، وتورطها في حرب العراق وقضايا الإرهاب الدولي. على المستوى الأمني والقضائي: يتبين أن الأجهزة الرسمية المغربية السياسية أو الأمنية لم تتعامل مع أحداث 16 ماي بالتعقل نفسه الذي تبديه جارتنا إسبانيا، ولم تستسطع أجهزتنا أن تضبط نفسها، سواء في توزيع الاتهامات على الخصوم السياسين، أو في شن حملة واسعة من الاعتقالات في صفوف المواطنين، عدت بالآلاف، كما أنه في مرحلة التحقيق، وفي أقل من 48 أربعين ساعة، اتهم وزير العدل المغربي جماعة إسمها الصراط المستقيم قال إن لها علاقة بالحادث، وذكر فيما بعد اسم السلفية الجهادية، فيما اتهم وزير آخر تنظيم القاعدة بتدبيره لحادث الدارالبيضاء، وتم تقديم ما يقرب 800 متهم إلى العدالة في وقت قياسي، صرح جلهم أمام المحكمة أنهم تعرضوا للاختطاف والاعتقال التحكمي في أماكن سرية، كما أكدوا أن تصريحاتهم انتزعت منهم تحت تأثير التعذيب والإكراه، وقد أصدرت منظمات حقوقية عديدة، سواء الوطنية منها أو الدولية، تقاريرها بهذا الشأن، معتبرة أن القضاء المغربي لم يكن عادلا في محاكمته للمتهمين في أحداث 16 ماي، وذكرت تلك التقارير جملة من التجاوزات القانونية، منها بالخصوص عدم احترام آجال الحراسة النظرية، وحقوق الدفاع، والسرعة القياسية التي تمت بها المحاكمات. وفي غضون ثلاثة أشهر بعد أحداث 16 ماي، وبعد جلسات ماراطونية، أصدرت محاكم مختلفة من المغرب أحكاما بمئات السنين قاسية في حق المئات من المشتبه فيهم، وصفها المتتبعون في ما بعد أنها كانت أحكاما، لا تتناسب مع الوقائع المتضمنة في صكوك الاتهام. وتجدر الملاحظة إلى أنه رغم كل هذه الإجراءات الصارمة والأحكام القاسية لم يستطع القضاء المغربي أن يحدد بشكل دقيق الجهة أو الجهات التي كانت وراء تدبير أحداث 16 ماي، وإنما تمت إدانه ما يسمى بالسلفية الجهادية، وبعض شيوخها، وبقيت تلك الاتهامات عائمة.. ولوحظ، في إطار التعامل مع أحداث 16 ماي، أن كفة المقاربة الأمنية في معالجة أحداث 16 ماي، رجحت على حساب المقاربة الشاملة لاجتثاث نوازع التطرف أو الغلو، التي بدأت تظهر لمجتمعنا، وقد كان لذلك آثاره السلبية على تراجع حقوق الإنسان بالمغرب، وتكريس الالتجاء إلى الأساليب الماضية في تصفية الجهات المعارضة أو المناوئة. كما أن المعالجة المذكورة كانت على حساب تمتين دولة الحق والقانون، فبعد خمسة أيام من أحداث 16 ماي، تم سن قانون الإرهاب، الذي يعتبره المتتبعون انتكاسة في عالم حقوق الإنسان، وتراجعا عن بعض الامتيازات والحقوق التي كانت في صالح المقدمين على انظار العدالة. استخلاص العبر إن إسبانيا رغم الفاجعة التي أصابتها يوم 11 مارس، فإن ذلك لم يحملها على التنكر لمبادئها الديمقراطية والقانونية، بل استطاعت أن تحافظ على التوازن الداخلي لبلادها، وأن تعبئ الشعب الإسباني كله في محاربة الأخطار المحذقة به، وأن تفسح له المجال بكل حرية في التعبير عن نفسه في الاستحقاقات الانتخابية.. وبالنسبة لنا في المغرب يجب أن نستفيد من الأحداث التي وقعت لنا في الدارالبيضاء، كما يجب أن نستفيد من جارتنا إسبانيا في هذا المجال، لأنه كما عبر عن ذلك أحد الإعلاميين المغاربة، فإن المواجهة مع الإرهاب وجب أن تكون في نطاق دولة الحق والقانون، وأن الخروج عن هذا النهج، سيشكل مؤشرا من مؤشرات إخفاقنا في مواجهته، لأن هدف الإرهاب هو أن يجعلنا نعيش في حالة طوارئ واستثناء، وأن يزرع البلبلة والتوتر وعدم إحساس الإنسان بالأمن، وأن يصبح كل مواطن مستهدفا، سواء من خلال الاعتداء الجسدي أو من خلال الاعتداء على حقوقه الأساسية التي لا ضمان لها إلا إعمال مبادئ دولة الحق والقانون. عمر العمري