في صبيحة يوم الأربعاء 29 يوليوز 2015، توجهت القوات الأمنية ومعها الجرّافات إلى حيّ بونك في العاصمة طهران، لتقوم بهدم المسجد الوحيد للمسلمين السنّة بعد أن أغلقته وختمته بالشمع الأحمر ومنعت المسلمين هناك من الاقتراب منه طيلة شهر رمضان وما بعده. وفق السياسة الإيرانية المعتمدة لدى (الولي الفقيه)، لا تبدو هذه الفعلة مستنكرة ولا مستغربة، فالمسلمون السنّة في طهران ممنوعون من إقامة مسجد لهم منذ ثورة الخميني وإلى اليوم، وقد حاول بعض الموظفين في السفارات والقنصليات العربية أن يقيموا لهم ولعوائلهم مصلى يجمعهم في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين فجوبهوا بقوّة، وكأنهم تجاوزوا كل الخطوط الحمراء! من المفارقات أن المعابد اليهودية هناك تحظى بالرعاية والحماية، وقد زاد عددها في طهران وحدها على اثني عشر معبدا، وكلها شامخة بمعالمها وزخارفها، وهكذا معابد الديانات الأخرى كالمسيحية والزرادشتية. بالرجوع إلى الدستور المكتوب باللغة العربية والذي توزّعه الملحقيات الثقافية الإيرانية في البلاد العربية وجدت الفقرتين الآتيتين: (المادة الثانية عشرة: الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثني عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير، وأما المذاهب الإسلامية الأخرى والتي تضم المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي فإنها تتمتع باحترام كامل، وأتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسمهم المذهبية حسب فقههم..). (المادة الثالثة عشرة: الإيرانيون الزرادشت واليهود والمسيحيون هم وحدهم الأقليّات الدينية المعترف بها، وتتمتع بالحرية في أداء مراسمها الدينية ضمن نطاق القانون). الفقرة الثانية مطبّقة بشكل واضح ومريح على ما يبدو، بيد أن الفقرة الأولى التي تخص المذاهب الإسلامية هي التي تتعرّض للانتهاك بشكل واضح أيضا، فهدم المسجد الوحيد للمذاهب الأربعة التي ينص عليها الدستور لا يمكن أن يكون له مسوّغ، وبالتالي فهو هدم صريح لهذه المادة الدستورية، والولي الفقيه المناط به حماية الدستور وتطبيقه وحمل الدولة والأمة عليه باعتباره المرجع الأعلى والقائد الأول بنص الدستور، قد تعمّد انتهاك هذا الدستور والتنصل عن القيام بوظيفته الدينية والدستوريّة. وإذا كان الولي الفقيه قد أعطى لنفسه الحق في نقض (العقد الاجتماعي) الأول في إيران، فأي ثقة ستبقى في التزامه أو التزام مَن دونه بالقرارات والاتفاقات والوعود والعهود؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن الميليشيات الشيعية العراقية والخاضعة لسلطة الولي الفقيه، قد تولّت هدم عشرات المساجد في بغداد وديالى والبصرة وغيرها من المناطق، دون نكير من الولي الفقيه ولا غيره من المراجع (العظام)، مما يؤكّد وجود نهج مسبق ومتفق عليه لهدم الوجود الإسلامي السنّي في هذه البلاد حتى على مستوى الشعائر وأماكن العبادة. في الطرف المقابل، لا يمكننا أبدا أن نتصوّر دولة سنّية واحدة مهما كان شكل النظام فيها أن تقوم بهدم حسينية شيعية حتى لو كان أتباع هذه الحسينية موالين لإيران ويعملون في خدمتها وخدمة مشاريعها التوسعية، لكن هذه الدول تتعرّض في العادة للانتقادات الشديدة كلما حصل فيها عدوان عرضي وطائش تقوم به فئات متمردة وخارجة عن القانون! (المجتمع الدولي) يؤكد مطالبته (الدول السنيّة) بتغيير سياساتها تجاه الأقليات الشيعية، ونشر ثقافة (المحبة) و (التسامح)، لأن هذا هو الذي يحقق (الاستقرار) و(التعايش السلمي). (الليبراليون) و(العلمانيون) العرب لا يكفّون أيضا عن مناشدة دولهم لتغيير مناهج (التعليم الديني) لأنها السبب في تخريج (العناصر المتطرفة) التي قامت بالاعتداء على حسينية في الكويت وأخرى في القطيف، مع أن هذه العناصر ليس لهم صلة بالتعليم الديني ولا بالمؤسسات العلمية، بل هم يكفّرون علماءهم قبل أن يكفّروا الشيعة، وفجّروا مسجد النبي يونس -عليه السلام- في الموصل قبل تفجيرهم لهاتين الحسينيتين. الإعلام العربي لا يتذكر (حرية التعبير) و(حقوق الإنسان) و(القيم الديمقراطية) إلا حينما يقوم أحمق ومعتوه بالاعتداء على معبد شيعي أو مسيحي، أما حينما تقوم دولة بكامل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية بهدم مسجد للسنة، فهذا شأن داخلي، والتركيز عليه لا يخلو عن بعد طائفي! الذي يثير الاستغراب أكثر هو موقف المنظمات والجماعات الإسلامية، والتي يفترض أنها قد أخذت على عاتقها حماية الإسلام والذود عن المقدّسات أكثر من غيرها. قال لي أحد المشايخ الفضلاء: لماذا تعتذر دائما عن المشاركة في اجتماعات العلماء؟ قلت: لأني أرى بينكم على المنصة من يمثل طهران ووليها الفقيه، دون أن أجد لكم وزنا مؤثرا ولو بحجم بناء مصلى واحد في طهران، إنكم تعترفون بشرعيتهم وإسلاميتهم وهم لا يعترفون بإسلامكم ولا بوجودكم. أذكر كيف هب علماء المسلمين لإقناع حكومة طالبان بالعدول عن هدم تماثيل بوذا، وتجشموا عناء السفر إلى كابل، وأنا مع إخواني العلماء في هذا، لكني لست معهم حينما أجد همتهم هذه تتقاعس وتتضاءل حينما يتعلق الأمر بهدم مقدّسات المسلمين وإهانة شعائرهم ومشاعرهم. جماعات إسلامية أخرى تغض الطرف عن كل هذا أملا منها أن تساعدها إيران في تحرير (المسجد الأقصى)! وما علموا أن هؤلاء أجرأ على هدم المساجد من غيرهم، والمسجد الأقصى ليس استثناء، فهو الذي فتحه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو عدوّهم الأول، وبنى قبة الصخرة فيه عبد الملك بن مروان! ثم فتحه ثانية صلاح الدين الأيوبي مزيل الدولة الفاطمية، فالأقصى لا يثير فيهم سوى الأحقاد الدفينة مهما تجمّلوا سياسة أو تقية، وقد سبق لإخوانهم من القرامطة أن سرقوا الحجر الأسود وقتلوا الحجيج، فيا لله للغفلة واللهاثة وراء كل سراب. لقد صرت أخشى أن تصدق في هؤلاء مقولة مقتدى الصدر: (كنا نحن الشيعة نمارس التقية، ولما تركناها صار السنّة يمارسونها)!