يسود اعتقاد خاطئ لدى فئات عريضة من الناس، في المجتمعات العربية والإسلامية، مفاده أن الاشتغال في المجال الفني يخالف الدين، وأن امتهان التمثيل والغناء محرم شرعا، وهذا اعتقاد ترسخ بسبب ما راج من آراء فقهية متشددة لبعض علماء المشرق، وقد كانت مصر سباقة لانتشار هذا الاعتقاد، لأنها تاريخيا كانت الرائدة في المجال الفني، حيث شهدت مبكرا اعتزال عدد من الأسماء اللامعة في الوسط الفني، لكن المثير في الأمر، هو أن يتجه هؤلاء الفنانين والفنانات إلى ممارسة الدعوة والإرشاد الديني. أما في المغرب فلم نشهد نفس الدرجة من اعتزال الفنانين، وإنما كانت هناك حالات محدودة جدا، ولأسباب خاصة، كما حدث مع الفنانة عزيزة جلال وبهيجة ادريس مثلا. لكن، في السنوات الأخيرة، بدأنا نسمع عن اعتزال بعض الفنانين للمجال الفني، وخاصة الغناء، وإعلان البعض الآخر عن رغبته في الاعتزال، وهذا يدل على أن التمثل الخاطئ لموقف الدين من الفن، انتقل إلينا وبدأ ينتشر داخل الوسط الفني المغربي، وهو السبب الذي دعاني للكتابة في الموضوع، لتسليط الضوء على قضية اعتزال العمل الفني، وعلاقتها بالقراءة الضيقة لحكم الدين. بداية، يجب التأكيد على أن الدين الإسلامي عندما يحرم شيء، فإنه يأتي بنصوص قطعية ومحكمة الدلالة، حتى لا يترك مجال للشك واللبس، وهناك أقضية ومسائل لم يقطع فيها بحكم صريح، وتبقى مجالا للاجتهاد والاختلاف، ومن ضمنها موضوع الغناء، الذي اختلف حوله العلماء عبر العصور، وهذا الاختلاف مصدره الاستدلال الفقهي ببعض النصوص الواردة في الموضوع، بحسب المدارس والمراجع الفقهية، وليس المجال هنا للتوسع في سرد الاختلاف، لكن ما يهمنا، هو أن جمهور العلماء لا يرون بحرمة الفن عموما والغناء بشكل خاص، إذا كان يخدم قضايا الأمة، ويلتزم بضوابط أخلاقية، تحافظ على قيم المجتمع. ومن المعلوم أن الأحكام الشرعية تقوم على علل وحِكم شُرعت لأجلها، والفن عموما وسيلة من وسائل الترفيه والتثقيف، يمكن وصفها بسيف ذو حدين، فهي إن التزمت بالضوابط الأخلاقية، فإنها تساهم في الرقي بالذوق، وتعزيز القيم المثلى، وإن تحللت من الضوابط، فإنها تصبح عاملا من عوامل هدم القيم، وإفساد الذوق العام. وهكذا، عندما نتحدث عن الغناء كفن من الفنون الجميلة، نجد أنه وسيلة ثقافية يمكن أن يوظف في اتجاه الحفاظ على القيم الأصيلة في المجتمع، ويمكن أن يسخر للعبث بهذه القيم، وهذا ما نشاهده اليوم للأسف في كثير من الأعمال التي تُقدم للجمهور المغربي، بحيث إن معظم هذه الأعمال لا تحترم الحد الأدنى من الضوابط الأخلاقية، سواء فيما يتعلق بالكلمات أو المواضيع التي تعالجها، فقد أصبحنا نلاحظ موجة عارمة من الأعمال التي تتغنى فقط بالمواضيع العاطفية مرفقة بكليبات خليعة، تحرض على العلاقات غير الشرعية، وتستخدم فيها كلمات ساقطة وخادشة للحياء، وهذا راجع بالأساس إلى اختراق المجال الفني من قبل أشخاص لا أخلاق لهم ولا حس وطني، همهم الوحيد هو تحقيق الأرباح على حساب قيم المجتمع، وتوظيف الفن لأغراض مشبوهة، حتى صار الفن المبتذل هو المهيمن. أما عندما كان الفاعلون في المجال الفني من النخبة التي تؤمن بأن رسالة الفن ذات أهداف سامية وقيم نبيلة، فإن الوسط الفني خلد لأعمال فنية رفيعة، تتناول قضايا متنوعة وطنية وإنسانية واجتماعية، وحتى العاطفية منها كانت تمتاز برقيها وجودتها، وبعدها عن الإثارة المجانية. وربما يكون هيمنة الأعمال المبتذلة على المجال الفني، هو ما دفع ببعض الفنانين إلى اعتزال الفن، خاصة مجال الغناء، لكون قناعتهم الدينية تتعارض مع الاشتغال في مجال تعطلت فيه الضوابط الأخلاقية، إلا أن هذا التوجه يحتاج إلى مراجعة، خاصة عندما يختار الفنان المعتزل التوجه إلى مجال الدعوة والإرشاد الديني، حيث إن هذا الاعتزال لا يخدم الدين كما لا يساهم في إصلاح ما فسد من الفن، فهو يعطي الانطباع للناس بأن الفن حرام بإطلاق، وهذا غير صحيح كما أسلفنا، كما أنه يضيّق مجال الدعوة ليحصرها في الموعظة والتوجيه الديني، في حين أن الدعوة لها مدلول واسع، فكل مسلم يمكن أن يكون داعية في مجال تخصصه، باستقامته وتدينه وأخلاقه وإتقانه لعمله، الفنان والطبيب والمهندس والمحامي والموظف.. كل واحد في عمله، وبالتالي فبدل اعتزال المجال الفني، الأولى استبدال الأعمال الفنية التي لا تحترم الضوابط الأخلاقية والقيمية للمجتمع، بأعمال ملتزمة، وهكذا يصبح الفنان داعية بفنه وإبداعه، بدل الاتجاه إلى مجال الموعظة والإرشاد الذي له أهل الاختصاص، والقصد هنا التفرغ للدعوة وترك العمل الأصلي، وليس مطلق الدعوة إلى الله، فهو عمل مرغّب فيه لكل مسلم. وهناك كثير من الفنانين والفنانات المغاربة الذين قدموا أعمالا فنية جيدة، مصدر فخر لكل المغاربة، لأنها كانت تعبيرا عن مواضيع جادة تهمهم، والتزمت بضوابط أخلاقية، واحترمت قيمهم وثقافتهم، وفي طليعة هؤلاء الفنانين، الفنان القدير عبد الهادي بلخياط، الذي اعتزل المجال، لكنه أحسن صنعا عندما تراجع عن قراره، وعاد لتقديم أعمال فنية ملتزمة، لا يهم أن تكون موضوعاتها دينية أو إنسانية أو اجتماعية، المهم أن تحترم قيم الجمهور، وتحافظ على الذوق الرفيع، وهذا ما نأمله في بعض الفنانين الشباب الذين قرروا الاعتزال، وتركوا الساحة الفنية للإنتاجات الهابطة والرديئة، والأفضل لهم أن يعودوا لتقديم بديل فني ملتزم، يعيد للفن أصالته، وللغناء نبله، ويساهموا في الارتقاء بالذوق العام، وتعزيز القيم والأخلاق داخل المجتمع.