في خضم السجال حول مهرجان موازين ، رفع مرة أخرى شعار "الفن الملتزم و الهادف" ، كذريعة و حجة للمطالبة بإلغاء المهرجان، الذي لايقدم إلا "فحشا و فسادا" للبعض من أهل اليمين أو "ثقافة جوفاء و مائعة" للبعض الأخر من أهل اليسار. وإذا كان لمعارضي إقامة موازين حق و ألف حق في التشكيك في ميزانية المهرجان، و طلب أن لايصرف درهم واحد من المال العام في غير محله، كما أنهم على صواب عندما يطالبون بأن يرفع محمد الماجدي يده عن رئاسة موازين إلا أنه من الخطأ طلب إلغاء هذا المهرجان لذرائع أخلاقية و دينية أو بمنطق الوصاية على ذوق الناس تحت يافطة "الفن الملتزم و الهادف " ، فهاته شعبوية و تسلط غير مقبولين. يرفع من نصبوا أنفسهم قيمين على الذوق السليم لافتة "الفن الملتزم" و كأنه الترياق الشافي لسوء حال الثقافة في بلادنا. غير أن من عرف و خبر الأنشطة الثقاقية التي كانت تفرضها، و ما زالت، جماعات اليسار الماركسي و الحركات الإسلامية في الجامعات المغربية أو في الملتقيات الثقافية كبديل فني، لن يملك إلا أن يلعن سيرة هذا الفن الملتزم المبشر به، متمنيا جلد المنشدين الإسلاميين بأوتار المغنيين الملتزمين من أهل اليسار. أغاني مكرورة و معادة و كأن الموسيقى عقمت بعد الشيخ إمام، و فقر في الألات و التوزيع كما لو أن هناك قانونا إلهيا لا يبيح سوى إستعمال الدفوف. من كان راغبا في معرفة شكل الثقافة في الأنظمة الشمولية و الإستبدادية، فله في تلك الأنشطة "الملتزمة" نماذج مصغرة.
أسطورة الأدب الملتزم و الشعر الملتزم و الغناء الملتزم...الى أخره مما ترسب في الخطاب الثقافي المهيمن عند اليسار الجذري و التي ورثها الإسلاميون فيما بعد، ليست بالجديدة و لا بالغريبة. هي نتاج نفس التصور الذي يجمع بين اليسار الماركسي و الإسلاميين للفن و الأدب. كلاهما لايتخيلان الفن إلا كتابع و خادم للسياسة ، لا قيمة له ولاجدوى خارج وظيفته و دوره الإجتماعي و الأخلاقي. بالنسبة لليسار، الفن ينبغي أن يكون تحريضيا، ثائرا، يأخذ المواطن من يده كطفل قاصر ليملي عليه هويته و يحدد له من العدو و من الصديق. ما يهم اليسار في هذا الفن هو الوظيفة و الدور لا الشكل و الجمالية. نفس التصور سائد لدى الإسلاميين، الذين أضافوا بهارات أخلاقية و دينية لخلطة الفن الملتزم. بالنسبة لهم لايختلف العمل الفني و الأدبي عن الخطبة من فوق المنبر أو الدرس الديني: مواعظ و وصايا و محرمات و نواهي. للإسلاميين تصور "كلينيكي" للفن و الأدب: الجنس و اللذة و استخدام الرموز الدينية لإغناء العمل الفني و الأدبي يراها الإسلاميون كفيروسات و جراثيم تصيب جسد المجتمع و تنخره وبالتالي تجب محاربتها. فكم من الفنانين و الأدباء انتقدوا و هوجموا من قبل الإسلاميين نتيجة هذا التصور الأخلاقي الضيق للفن و الأدب من محمد شكري لمحمود درويش مرورا بمارسيل خليفة و نجيب محفوظ و غيرهم.
ما لايدركه أصحاب أسطوانة الفن الملتزم المشروخة هو أن قيمة العمل الفني هي في إبداعه و جماليته لا في وظيفته و دوره. فيروز و مارسيل خليفة و أم كلثوم و عبد الحليم ليسوا بقمم فنية لأنهم غنوا أعمالا قومية و "ملتزمة" بل لأنهم كانوا مبدعين و موهوبين فنيا أولا و أخيرا. حصرهم في خانة "الفن الملتزم" ظلم لما قدموه للثقافة العربية. ولعل مثل هاته التصنيفات هي التي جعلت محمود درويش يردد و يؤكد مرارا أنه شاعر قبل كل شيء و ليس فقط و حصريا شاعر القضية الفلسطينية. و أخيرا، و كما كان يقول أوسكار و ايلد "ليس هناك كتاب أخلاقي و كتاب غير أخلاقي بل هناك كتاب جيد و كتاب سيء"، فالإلتزام الوحيد للفن هو جمالي فقط و لا غير.