لا يكتمل عرس مغربي دون أوركسترا الفنان الشعبي المختار جدوان، فهو فنان محبوب ومجتهد ويستطيع إضفاء أجواء فنية مغربية حقيقية يزاوج فيها بين كل إيقاعات التراث المغربي، كما أنه يؤلف ويكتب أغانيه التي يردّدها مئات المعجبين. لكن، فجأة، قرّر المختار جدوان الإعتزال وهو الفنان الذي يشهد له بسمعة طيبة. فماذا حصل ليتحوّل مسار هذا الفنان الشعبي الذي أثار خبر اعتزاله تساؤلات عديدة؟ كل الأجوبة نكشف عنها في اللقاء التالي:. أولاً، ما حقيقة اعتزالك الغناء؟ الإعتزال حقيقي ولم يأت بالصدفة. لقد دأبت على تلاوة القرآن والصوم والصلاة منذ صغري، وباعتزالي الغناء أكون قد وفيت بنذري الذي قطعته منذ 12 سنة، حيث قرّرت الإعتزال عند بلوغي سن الأربعين وأداء مناسك الحج، وكانت هذه الفكرة تراودني دائماً رغم انشغالي في الفن. وقد كنت كلما تلوت قول الله عز وجل {حتى إذا بلغ أشده وبلغ الأربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك}، دمعت عيناي لشدة تأثري ببلاغة هذه الآية الكريمة. وبعد أدائي للعمرة مرتين في عامي 1992 و1993 وبلوغي سن الأربعين، قرّرت حجّ بيت الله الحرام وفاءً لنذري. ورغم أن الحظ لم يحالفني بادئ الأمر بسبب قانون «الحصص» (تحديد عدد الحجاج) الذي أصبح معمولاً به في السنوات الأخيرة، إلا أنني حصلت وزوجتي على تأشيرة مجاملة وأدّيت هذه الفريضة وأعلنت اعتزالي الغناء. ولكن، قدّمت القناة الثانية حفلاً فنياً لك فور اعتزالك وقالوا إنه من إنتاج عام 2008؟ بكل صراحة، لقد انزعجت كثيراً وأنا أشاهد هذا الحفل الفني على شاشة القناة الثانية، والذي أثار لدى العديد من الأصدقاء والمشاهدين تساؤلات كثيرة حول مدى جدية القرار الذي اتخذته، وما أزعجني أكثر هو ادعاء القناة بأن الحفل المذكور أنتجته عام 2008، في حين كان قد تمّ تصويره في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 أي قبل اعتزالي، علماً بأنني طلبت من المسؤولين عن إنتاج الحفل أن يتفهمّوا وضعي فوعدوني خيراً، إلا أنه تبيّن بعد بثه أنهم لم يعيروا ندائي أي اهتمام. لذلك، وجب التأكيد أن الحفل الفني تمّ تصويره قبل الإعتزال بدليل أنني ألغيت حفلاً فنياً ضخماً في باريس رغم الإغراءات المالية التي عرضت علي، حيث بعثت لجمهوري برسالة اعتذار صوتية وصورتي مرتدياً لباس الإحرام، وكان لاعتذاري وقع طيب في نفوس الحاضرين، وقد أبلغني أحد الأصدقاء بأنه تعالت الزغاريد وسالت دموع بعض النساء تأثراً وفرحاً وقد تقبل جمهوري اعتذاري بلطف. إعتزالك هل هو وقفة تأمل مع الذات أم أنه اعتزال نهائي؟ هواعتزال لا رجعة فيه، فمنذ فترة وأنا أنتظر بلوغ سن الأربعين لأداء مناسك الحج واعتزال الغناء. وبمن تأثرت في هذا الصدد؟ لم أتأثر بأحد. لقد انقطعت عن الغناء بمحض إرادتي. هكذا عشت فني هل معنى ذلك أن الغناء كان بالنسبة إليك أمراً مشكوكاً فيه (حرام)؟ إن غنائي لم يكن مبتذلاً، والجميع يعرف ذلك، لكن خلال الخمس سنوات الأخيرة بالتحديد كنت أغني وكأني أشعر بغصة في حلقي، فرغم أن أغنياتي ليست مبتذلة إلا أن تأثيرها على الحاضرين وما ينتج عنها من رقص مختلط يعدّ مشكلة، لأنني أتسبّب في حالة اختلاط ورقص جماعي يغضب الله. وبالتالي، فإنني لا أرى أي معنى أن يزور المرء بيت الله ليغتسل من ذنوبه ثم يعود بعد توبته ليتعلق بذنوبه مرة أخرى. لذلك، تخليت عن الفن رغم ما يتيحه من شهرة ومال مقابل رضا الله. كثيراً ما تتحدث المعتزلات من الفنانات عن رؤيا في المنام ، هل حصل معك ذلك؟ أجل، لكنني لا أستطيع الإعلان عن هذه الرؤيا لأنها تخصني ولابد من أن أستشير الفقهاء إن كان بإمكاني الجهر بها. "" وعلاقتك بالغناء كيف بدأت؟ بدأت نتيجة تأثري بثلاثة أشقاء لي مولعين بالغناء، وقد أنشأ كل واحد منهم مجموعة غنائية خاصة به، كان ذلك في فترة السبعينات التي شهدت ظهور مجموعة «ناس الغيوان» الشهيرة، فكانوا يتمرنون في البيت وأنا أسترق السمع وأقلدهم، فاستهواني الغناء بدوري، وأذكر أنني صعدت على خشبة المسرح وعمري 12 سنة لأغني في حفل زفاف أقامه الجيران أغنية «ها حنا جينا» للفنان الشعبي الزياني وأمام ما يقارب 500 مدعو. ولشدة ولعي بالفن التحقت بالمعهد الوطني للموسيقى في الرباط، ورافقت في حياتي كبار الموسيقيين والعازفين من بينهم عازفا الساكسوفون محمد الشريف ومحمد الادريسي، اللذان أخذت عنهما المقامات العربية، فامتهنت الغناء تدريجياً بموازاة الدراسة، إلا أنني ومع مرور الوقت لم أوفق في الجمع بينهما فانقطعت عن دراستي بسبب سفري خارج المغرب. تفرّغت للفن، واشتغلت في الوقت نفسه في الاستثمار والعقار، لأنني كنت أفكر في اعتزال الغناء مهما طال الأمد، ولو تفرغت لعملي في الاستثمارات العقارية لكنت اليوم من كبار أغنياء البلد على غرار العديد من الأصدقاء الذين لم أعمل بنصيحتهم للأسف. الغناء هو مصدر رزقك الأساسي، فكيف تعيش اليوم؟ منذ 20 سنة وأنا أزكّي أموالي، وكما قلت لم أكن أعيش من الفن فقط. وما هي المواقف المحرجة التي عاشها جدوان في مشواره الفني؟ مواقف كثيرة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بشخصيات تحتل مكانة اجتماعية بارزة، تستغل سلطتها لتفرض أنانيتها وسيطرتها، فلا يقبل منك أي اعتذار وتريد أن تكون السباقة في كل شيء بحجة أنها أولى من غيرها لما لها من جاه ومال ووظيفة، فيحاول البعض الضغط علي أو إغرائي، علما بأنني لست من النوع الذي يقبل الدخول في المزايدات ولا أخضع للأوامر، هناك أيضاً مضايقات من المعجبات إلا أنني والحمد لله بقيت وفياً لزوجتي وكنت أتخلص من جميع المضايقات بما حباني به الله عز وجل من حكمة وتدبر وسعة صدر. إن المجال الفني صعب والخروج منه بسلام أصعب، فقد تزوجت وعمري 21 سنة ولدي طفلان (الولد 18 سنة والبنت 15 سنة)، وما يريحني أكثر هو أنني اعتزلت الغناء سالماً وكنت في مستوى ثقة زوجتي رغم الفتنة التي يفرضها هذا العالم. أنت من أبرز نجوم الأغنية الشعبية، فهل وقعت في فخ النجومية؟ لم تنل النجومية من سلوكياتي شيئاً، صمت شهر رمضان وعمري 12 سنة وتلوت القرآن وصليت وتجنبت المحرمات، فكيف ستنال النجومية مني؟ ما هو موقفك من صفة الإرهابي التي أصبحت لصيقة بالإسلام؟ أغلب المنحرفين والإرهابيين جهلة غير مثقفين ولا يفهمون الإسلام، فالإسلام دين تسامح وتعاون وإخاء ودين تعايش، والإرهابيون أساؤوا إلى الإسلام وهو بريء من أفعالهم، الإسلام سلام. وماذا يشغلك اليوم بعد اعتزالك الغناء؟ تجويد القرآن الكريم وتسجيله في شريط، أريد توظيف نعمة الصوت التي حباني بها الله في ما يرضيه. وهل درست قواعد التجويد؟ لم أنته من دراستها بعد، وما إن أتمكن من هذه القواعد سأسجل القرآن الكريم بكامله. وما هي الغاية؟ لا أريد حرمان جمهوري من صوتي الذي أطربهم لسنوات، وسأسجل كذلك ابتهالات وأغاني دينية على غرار الفنان سامي يوسف، وهذه دعوة على صفحات «سيدتي» لكل من يلمس في نفسه القدرة للتعاون في هذا المجال. مهنئون ومُعارض لقد ذقت حلاوة الإيمان وتركت أضواء النجومية الخادعة، فهل تُنبه أصدقاءك من الفنانين لذلك؟ حاولت أن أنقذ ما يمكن إنقاذه خصوصاً بعض الفنانين الشباب الذين اشتهروا وأفلسوا وأصبحوا مدمنين على التدخين والكحول. وكنت أقول لهم إن الشهرة مجرد فقاعة صابون وينبغي أن ينصب تفكيرهم على المستقبل وتأمين حياتهم وعيشهم. إن ما يؤسفني هو أن أرى فناناً أو ممثلاً أمضى حياته في الغناء والفن يستجدي عطف الآخرين ليعالج نفسه. وماذا كان موقف الفنانين المغاربة من اعتزالك؟ تلقيت تهاني من أصدقائي الذين باركوا قراري واعتبروه شجاعاً وتمنوا أن يصلوا هم أيضاً لقناعتي هذه. ومن اختلف معك؟ صديقي الفنان أحمد العلوي نقيب الفنانين الذي أحترم رأيه، إلا أنني أقنعته أن الإيمان يختلف من شخص لآخر ولكل رؤيته للأمور. والآن، هل تستمع إلى الموسيقى؟ الموسيقى غذاء الروح وليست حراماً، شرط أن تكون موسيقى لطيفة وراقية لا تلوث أخلاق الناس. هل يمكن أن تستمع لأغاني هيفاء ونانسي عجرم؟ ليس لدي موقف من أي فنان، غير أنني أتحفظ في الإستماع لفنانات سبق وأن شاهدتهن في أغانيهن المصورة التي يركزن فيها على لفت المشاهدين بأجسادهن أكثر من صوتهن. هل صحيح أنك أصبحت مؤذناً في أحد المساجد؟ هذا عمل إيماني تطوّعي كنت أقوم به منذ فترة بصمت، أنشد به التقرب لله عز وجل، حيث أقوم بتأدية الآذان الثالث يوم الجمعة. هل ترى أن تجربتك تشبه تجربة الفنان عبد الهادي بلخياط؟ عبد الهادي مطرب أصيل ومحبوب، لكنني أرى أنه ذهب بعيداً عندما هجر الفن لبعض الوقت، حيث انعزل كثيراً ورحل إلى بلد آخر بعيداً عن أسرته من أجل الدعوة، لكنني شخصياً أعتبر أن الدعوة الصحيحة تبدأ من الأسرة والوسط المحيط بك، أنا احترمه كثيراً لكن اعتزالي مختلف تماماً. حياتي أحلى كيف هي حياتك بعد الإعتزال؟ عادية ومريحة وأنكب على تلاوة القرآن وتعلم أصول الترتيل. هل تمارس الرياضة؟ المشي فقط. ماذا تغيّر في حياتك؟ حياتي أصبحت أكثر تنظيماً واعتني بعائلتي بشكل أفضل، وقد وجدت أموراً كثيرة مؤجلة بسبب انشغالاتي الفنية. كيف كان وقع الاعتزال على ولديك؟ وقع طيب، لم يتغيّر شيء في حياتهما خاصة وأنني فتحت معهما نقاشاً حول الموضوع وأوضحت موقفي. إبنتي تحب الموسيقى وتعزف على البيانو. بعد اعتزالي تفرغت لهما أكثر وصرت أهتم بشؤونهما بشكل أفضل. ماذا منحك الغناء؟ الاعتدال ومحبة الناس. وهل ندمت على شيء فيه؟ أجل، كنت أردّد بعض الأغاني دون أن أعرف أن بها معانٍ مرفوضة دينياً، أسأل الله المغفرة. ولدا جدوان سعيدان تقول مريم ابنة الفنان جدوان: «أنا جد متفهمة لموقف والدي الذي زادني فخراً به، لم يفاجئني قراره لأنه كان باستمرار يلمح لذلك مراراً. أعيش حياة متوازنة وأستمتع بها في إطار قيم الدين والمجتمع دون استهتار وبكثير من الاعتدال الذي تعلمته من والدي». والانطباع ذاته موجود لدى شقيقها صادق الذي يعتبر موقف والده شجاعاً ومناسباً رغم أن أصدقاءه يستغربون ذلك، ويقول: «أنا سعيد بانكبابه اليوم على تلاوة القرآن وأيضاً بتفكيره الجاد بإنتاج أغان دينية نحتاجها كشباب لتذكر الله والتأمل في حياتنا التي يعدّ الدين محوراً أساسياً فيها لضمان الاطمئنان النفسي الذي نحتاجه يوماً بعد يوم».