من أوجه التقوى في رمضان:مراعاة حدود الله من القواعد المقررة في الشرع، أن ما يؤدي إلى نتيجة ما يصير له حكمها، فإن كانت واجباً، فما أدى إليها واجب، وإن كانت حراماً، فما أدى إليها حرام. وبذلك تظل المسافة واسعة بين الحلال والحرام ليسهل على المكلف لزوم التقوى، وقد تيسر عليه فعل الواجب واجتناب الحرام. لكن في رمضان الذي هو شهر التقوى، نجد أن هذه القاعدة غير معتبرة نظراً لكون الممنوعات طالها المنع بصفة مؤقتة فحسب، وأن الصائم يمكنه أن يقلص المسافة بينه وبينها إلى أدنى حد. فالطعام والشراب المحرمان في نهار رمضان، قريبان من الصائم، ويدخرهما في منزله ويعدهما لفطوره بعد المغرب. والشرع أباح له أن يقترب منهما إلى حد أن يبلغ بهما فمه، عند المضمضة بالماء أثناء الوضوء، وعند تذوق الطعام لمعرفة جودة طبخه، دون أن يبيح له بلعهما، فإذا نزل شيء من ذلك إلى جوفه ولو غلبة لزمه القضاء عند بعض المذاهب. وأجاز الشرع الحكيم للصائم، أن يقبل زوجته ويلمس جسمها ويضمها، دون التمادي في ذلك إلى حين الإنزال المفسد للصيام. إن الشرع لم يمنع هذين العملين، رغم احتمال إفضائهما إلى الإفطار وانتهاك حرمة رمضان، ليعوّد الصائم ملازمة الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام، ولو كانت أدق من الشعر، فيستطيع بذلك قضاء بعض حاجاته، دون تخطي الحواجز الشرعية القائمة، وأن يمتلك أمر نفسه في أصعب الظروف وأخطر المواقف. وأمثلة أخرى لهذا النهج الرمضاني الفريد في التربية على التقوى، أنه يباح للصائم الكلام ويحظر عليه النطق بالزور والرفث، وكل أقوال السوء، فاللسان عندما ينطلق بالكلام ويستطرد فيه، يوشك أن يدخل منطقة الحظر والصائم لا يشعر، كما يباح له الشجار الخفيف ما لم يتحول إلى سب وشتم وقتال تحت تأثير الغضب والمزايدات الكلامية. فعند زحمة الغضب، وبداية فقدان السيطرة على توتر الأعصاب، يجب أن يمسك الصائم عن الجدال، ويذكر نفسه ومحاوره بأنه صائم، واضعاً بهذا الموقف حداً لتصعيد كلامي، سيؤدي لا محالة إلى محاذير وتصرفات مذمومة. وهكذا يلاحظ أن خطة رمضان الشرعية في التربية على التقوى، تستهدف مختلف فئات المومنين، على ما يكون بينهم من الفروق الفردية في الاستعداد الذاتي، لممارسة درجات الامتناع في أصعب مستوياتها، حتى يتمرسوا بذلك أكثر على ضبط أنفسهم في آخر خطوات ميلها قبل أن تزل أقدامهم. ولقد قرر القرآن هذه الخاصية لدى المتقين، فبين أنهم قادرون على التراجع عن اقتحام الحرام في آخر لحظة، حيث لم يعد يفصلهم عن تجاوز الحد إلا حركة بسيطة كثيراً ما يغلب فيها الشيطان الآدمي فيدفعه إلى الحرام، قال تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) (الأعراف2001). فالمتقون إذا أصابهم الشيطان بوسوسته، وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الانحراف، تذكروا عقاب الله، فإذا غشاوة الهوى تنزاح عن أعينهم، فيبصرون الخطر الوشيك فيتوقفون على عجل. أما غير المتقين الذين تآخوا مع الشياطين، فإنهم يزينون لهم سبل الضلال والغواية فلا يستطيعون أن يمتنعوا عن الوقوع في الإثم. وهكذا تربي عبادة الصيام في النفس القدرة على ممارسة التقوى، حتى في أصعب مراحلها، عندما يلتصق حدا الأمر والنهي بعضهما ببعض، ويعظم خطر الاشتباه بين الحلال والحرام، وبين الفضيلة والرذيلة، وهو ما يصادفه المكلف في عدة مأمورات شرعية، حين التّماس الشديد بين المحمود والمذموم، والمشروع والمحظور. ومن الأمثلة على ذلك الأعمال الظاهرة التي تحتمل انقلاب النية فيها من المطلوب إلى الممنوع، فالذي يظهر انفاق المال أمام الناس، تصير نيته في حفز غيره على حذو حذوه، قريبة جداً من التطور إلى قصد المراءاة ونيل رضى الناس والسمعة الطيبة لديهم. فما من عمل مما يبتغى به وجه الله والدار الآخرة إلا تتجاذبه أهواء النفس وحظوظها الدنيوية. فيحتاج المومن إلى ضبط نفسه عند حدود الشرع دون أن تدفع به دقتها الشديدة إلى تعديها والانتقال إلى رقعة المحظور. عبد السلام الأحمر