إذا كان الشاعر المعروف أحمد مطر قد كتب قصيدته المهداة إلى ناجي العلي: "ما أصعب الكلام"، فإن مما يتردد على ألسنة الخاص والعام، وعلى وزن هذا العنوان نفسه: "ما أصعب الحلال" حيث أننا كثيرا ما نسمع هذه العبارة تتردد في نوادي الناس ومجامعهم وصفا أو تعليقا على ما اختلط بمعاش الناس ومكاسبهم من موارد الشبهة، أو الحرام البين إلى حد أصبح الجزم لدى الناس بأن لا أحد اليوم معدودا من الناجين النجاة المطلقة من إصابة الحرام.. والسبب في ما تردد على الألسنة، هو ما أضحينا نراه من انغماس الناس في شبهات الحرام مأكلا، ومشربا، ومركبا، وملبسا، ومسكنا، ومكسبا، حيث التسابق على هذا الانغماس خفية وجهارا، ويتجلى ذلك في الرشاوى المقبوضة في مختلف الإدارات، وفي أنواع التلاعب بالمال العام والسرقات، وفي التهاون في أداء الوظائف والواجبات وفي التعامل بالربا، وكل مشبوه من المعاملات، بل إن الكثير من أهل الصلاح لم يسلموا بتساهلهم فيما به شبهة، الأمر الذي أولجهم ساحة الشبهات، وأدخلهم دائرتها، شعروا أم لم يشعروا، فما أصعب الحلال؟! والمستنطق للنصوص الشرعية، يجد زخما من الأوامر المتتالية والنواهي المتوالية بخصوص الأكل والكسب الحلال، واجتناب الشبهة والحرام من ذلك قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف الذي رواه أبو هريرة: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) الحديث. ومن دلائل التخويف الشديد من الوقوع في الحرام: الأمر بترك ما لا بأس به حذرا من مواقعة ما به بأس استبراء للدين والذمة؛ وفي سيرته عليه الصلاة والسلام وسيرة أصحابه خير شاهد، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها"، وهذا أبو بكر رضي الله عنه تقول عنه عائشة أن غلامه جاءه يوما بشيء فأكل منه، فلما علم أن أصله كهانة خادعة تكهن بها في الجاهلية، أدخل رضي الله عنه يده فقاء كل شيء في بطنه. والمتأمل في ما يدفع الناس إلى الولوغ في الحرام أو التساهل فيما اشتبه منه يجد أمورا عدة منها: 1 ضمور الإيمان والتقوى في القلوب، فإن المؤمن التقي الصادق يجعل بينه وبين الحرام والشبهة وقاية فلا يقرب شيئا من ذلك 2 الخوف من الفاقة والفقر، وضعف اليقين في الله تعالى الذي لا يأتي الرزق إلا من عنده، يقول تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) . 3 عدم الرضا والقناعة بقسمة العيش، فإن عدم القناعة بما يرزق العبد لا محالة دافعه إلى الحرام والتساهل فيه استزادة واستكثارا. 4 غياب خلق الحياء، فإن الاستحياء من الله أن يحفظ المؤمن الرأس وما وعى والبطن وما حوى كما جاء في الحديث. 5 حب الدنيا ونسيان الآخرة، فإن من أحب الدنيا كان فيها كحاطب ليل لا يدري ما جمع؛ ومن كبرت الدنيا في عينه وقلبه تكالب على متاعها طيبه وخبيثه، وكان لآخرته أضيع. 6 تلبيس إبليس الأمور على الناس، وتزيينه الحرام لهم تحت ذرائع كثيرة كالضرورة وعدم الاكتفاء في زمن المطالب الكثيرة والغلاء، أو تسميته لهم الحرام بغير اسم، كالهدية اقهيوة إلى غير ذلك... والخلاصة أن إسلام المسلم، وإيمان المؤمن لن يكتملا إلا بابتغاء الحلال واجتناب الحرام قليله وكثيره، فإن من عواقب إصابة الحرام: انغلاق باب إجابة الدعاء كما جاء في الحديث السالف: "... فأنى يستجاب لذلك.." وعدم قبول الأعمال الصالحة كلها والعبادات كما في الحديث: "إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عملا أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به". الأستاذ المصطفى الناصري