إن التنظيمات والهيئات والمؤسسات قابلة للإصابة بالعلل والأسقام، تماما مثلما تتعرض الأجسام الحية للأمراض، وإن الاكتشاف المبكر للأعراض المرضية هو الكفيل بأن يجعل المعالجة أقل تكلفة وأكثر فعالية، سواء حين يكون الجسم في كامل حيويته ونشاطه ومناعته الذاتية، إذ تتداعى سائر أعضاء الجسم بالسهر والحمى للقضاء على الميكروبات وطردها، أو في حالة وهن الجسم وضعف مناعته، و يضطر المريض لتناول المضادات الحيوية لإيقاف الداء والحيلولة دون استفحاله وانتشاره. غير أن الوقاية تبقى دائما أفضل من العلاج، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج. لذلك فإن التنظيمات والهيئات بدورها تبقى في أمس الحاجة إلى بناء نظام مناعة فعال، إذا أرادت أن تحافظ على استمرارها بصحة جيدة ما بقيت على قيد الحياة، وذلك من خلال ثلاث آليات: الأولى: تتمثل في العمل على الرصد والكشف المبكر عن حالات الارتخاء عند الرخاء، إذ لا شك أن مرحلة الشدة والتضييق تولد حالة من ردة الفعل التلقائية، وترفع من مستوى المناعة الذاتية للأفراد والمنظمات، على عكس مراحل الرخاء التي قد تولد استئناسا وطمأنينة، تتلاشى معها آليات المدافعة بشكل تدريجي وغير محسوس، أو تتراخى أحاسيس الممانعة شيئا فشيئا، تماما مثلما حصل في تجربة الضفدع. فحين ألقي في إناء ساخن قفز بتلقائية وبسرعة خارجه، في حين لما ألقي في ماء معتدل استأنس واطمأن، وحين أوقدت نار هادئة تحت الإناء ارتخت عضلاته وارتخت حواسه وضعفت يقظته ولم ينتبه لخطورة الوضع ولدرجة الحرارة الآخذة في الارتفاع شيئا فشيئا حتى انتهى به الأمر بالموت البطيء داخل الإناء. من أجل ذلك تحتاج المنظمات والهيئات إلى إرساء النظم والوسائل وآليات الاستشعار الكفيلة برصد التحولات، وبالكشف المبكر عن الاختلالات، للرفع من حالة اليقظة في ظروف الرخاء. الثانية: تتمثل في العمل على مباشرة العلاجات الضرورية، كلما تم الكشف عن بعض الاختلالات أو التصرفات غير اللائقة وغير المنسجمة مع المبادئ والمنطلقات، والصادمة للقيم المتعارف عليها، على أن تتم المعالجة بكل موضوعية وتجرد، دون تضخيم أو تهويل، ولا تهوين أو تطبيع مع الاختلالات. من أجل ذلك تحتاج المنظمات إلى وضع وإرساء القوانين والآليات الكفيلة بوصف العلاجات المناسبة والمضادات الحيوية الضرورية، مع الحرص على أن يكون العلاج بالنصيحة والتذكير والتنبيه على مخاطر التساهل مع الثوابت أولا، وبالإعلاء من قيم التواصي بالحق والتواصي بالصبر اللازم لكل الذين آمنوا وانخرطوا في عمل الصالحات ثانيا، وصولا إلى اتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة في الحالات التي تقتضي ذلك. الثالثة: تتمثل في العمل على إعطاء الأولوية للوقاية، باتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة والتلقيحات الضرورية الكفيلة بتقوية المقاومة والممانعة لدى التنظيمات والأعضاء على حد سواء ضد الأمراض أو الميكروبات أو الفيروسات المحتملة والمتوقعة، والعمل على التجديد المستمر والمتواصل لمقومات المناعة وآلياتها، وإلى تحيينها وتكييفها حسب معطيات كل مرحلة وظروفها، ذلك أن لكل مرحلة رجالاتها، ولكل وضعية تحدياتها وتهديداتها، وبالتالي فكل فترة لها آلياتها الدفاعية الملائمة لمواجهة المخاطر والتحديات والتهديدات. من أجل ذلك يصبح من الواجب تجديد آليات بناء القيم واصطحاب البعد التربوي، بما يكفل مواكبة ما يظهر من إكراهات وصعوبات في مراحل الرخاء، وتجديد مقومات الاستقامة واستدامة مصادر التزود بما يحسن من مستوى المناعة الذاتية ويرتقي باليقظة الجماعية، ويرسخ معاني التقوى في جميع الظروف والحالات، ذلك أن خير الزاد التقوى. وفي كلمة يمكن القول إن التنظيمات مثل الكائنات الحية، قابلة للحياة والاستمرار مثلما هي معرضة للموت والفناء، وقابلة للأمراض والعلل مثلما يمكنها التعافى والصحة، غير أن التنظيمات الراشدة هي التي تبقي على درجة يقظتها تجاه كل ما يمكن أن يهدد صحتها وسلامتها، وتبادر إلى مباشرة العلاج بمجرد اكتشاف المرض، وقبل ذلك وبعده تعمل على تقوية مناعتها الذاتية وتكييفها مع مختلف الظروف؛ سواء كانت في الشدة أو في الرخاء.