قد يألف الإنسان القديم , ويجمد عليه , ويحتمي به , ويشعر أنه بالحفاظ عليه يقدم خدمة له ولنفسه , ويبني بذلك كله كينونته الخاصة ووجوده الحقيقي . ذلك أن الوجود يتحدد بالانتماء الثقافي أكثر مما يتحدد باستمرار النوع البيولوجي . وإحساس الإنسان بذلك الوجود لا يكون له من معنى بغير الانتظام في التراث الثقافي الذي تنفس هواءه , وعاش به وله . وقد يجد الإنسان بعض الحماسة في نفسه , فتسعفه في التمرد على الذات أولا , والتمرد على الوجود الحقيقي , ومن ثمة الجرأة على طرح السؤال المشاكس اتجاه كل الأشياء التي كان يعتقد بقدسيتها , ووضعها الاعتباري الذي يجعل منها مادة خارج كل مساءلة وإعادة نظر . أطرح هذه التوطئة الوجودية , ولا أقصد من ورائها اختيار أحد الموقعين , ولا التبني الجامد لعناصر المقولتين , إنما الذي يسترعي الانتباه أكثر وطرح السؤال : لماذا يتكرر هذا النمط من الموقف داخل مشهدنا الثقافي , وكأن الثابت في التفكير واحد , والحيثيات لا تتغير ؟ . الكتابة بين العلم والحماسة كان الشاغل لدى علمائنا الأفاضل الاهتمام بضبط القواعد , وتقعيد الأصول , وكان هم المناطقة منصرفا لتصحيح التفكير بضبط آلته , وكان اهتمام فلاسفة نهضة أوربا بإعادة النظر في منهج الفكر والتفكير في صورة أقرب ما تكون إلى ما عرفناه في عصرنا الإسلامي بتأصيل الأصول . لقد كانت الحاجة تدعو لتأسيس قواعد العلم وبناء منهجيته , تلك المنهجية القادرة على الإحاطة بالظاهرة موضوع الدراسة , وبالتالي تقديم الفرضيات المفسرة واختبارها , ومن ثمة التوصل إلى قوانين بصددها . اليوم , وقد تأصلت الأصول , وتقعدت القواعد , ورسمت للعلم مناهج , فكيف نحدد موقفا متوازنا مما صار يطرح هنا وهناك من دعوات تجعل التجديد عنوانها على اختلاف في الموضوعات , سواء تعلق الأمر بحقل العقائد , أو التفسير أو الأصول , وما سوى ذلك من العلوم الشرعية المنتمية إلى الثقافة الإسلامية عموما . أطرح الموضوع - وأعنونه بالجرأة الفكرية - ويفهم معي القارئ أنها ليست معالجة معرفية قصد بها صاحبها مجرد الترف الفكري , وإنما استدعاني النظر في بعض ما يكتب من بعض أساتذتنا الأفاضل في جامعتنا المغربية إلى طرح السؤال , وفتح المجال للتأمل والمساءلة . وأنا لم أنته من كتاب " نحن والقرآن " للدكتور مصطفى بوهندي , سقط في يدي كتاب للدكتور أوغانم تحت عنوان :" الجديد في علم التوحيد " كنت أتصور أن الكتابين - بعد ما خفت آثار كتاب أكثر أبوهريرة - يطرحان منهجا جديدا للتعامل مع حقلين من الحقول المعرفية الإسلامية العقائد والتفسير , وكنت أعتقد أن التصور الجديد لا ينبني إلا على استيعاب لأصول العلمين كما عرفا عند علماء السلف , ونقد علمي يمهد لطرح التصور البديل الذي إن لم يتيسر لصاحبه طرح قواعده وتحديد ضوابطه , فلا أقل من تحديد المعالم التي ينطلق منها الباحث الناقد , ويتوسلها كأرضية لتقعيد القواعد , وضبط الأصول . ولكن الغريب , أني بقراءتي المتكررة المنصفة لمثل هذه الكتب , لا أجد فيها نفس الاجتهاد , ولا همة النظر , بله عمق النقد , ودقة التنظير . وقصارى ما تجد عمومات لفظية أو عناوين ليس تحتها رؤية تجديدية أو حتى خطوط عامة لما يمكن أن نصطلح عليه النقد العلمي . إن مثل هذه الكتابات لتدعو الباحث الذي يحترم قواعد العلم أولا , ثم يتأدب بأدبه , أن يعيد طرح مفهوم التجديد للنقاش . فهل التجديد مجرد دعاوى وخصومات لفظية , أم هو عملية اجتهادية قائمة على استيعاب معطيات العلم, وقواعده وتاريخه , ورصد التطورات المرافقة لنموه , والعوامل المؤثرة في نضجه واكتماله , بل وحتى المؤثرات التي عرقلت انطلاقه , أو حرفت مساره ؟ أسئلة تكاد لا تجد لها وجودا في مثل تلك الكتابات . ولست بصدد مناقشة المضامين الواردة في هذه المؤلفات , ولا التعقيب على بعض المشاغبات , إنما الحدث بنفسه يستلزم حديثا , واستمرار مثل هذا النفس في التأليف والجرأة الفكرية يستدعي وقفة للتأمل . في مفهوم التجديد لعل الدارس الناقد يعلم ببديهته أن التجديد ليس عبارة عن تكرار للمفاهيم , ولا هو استدعاء للمناقشات القديمة بأسلوب عصري , ولا هو حتى ركوب لغة التمرد والثورة على القواعد والأصول التي اجتهد العلماء في تقعيدها وضبطها . إن التجديد بمفهومه يتضمن هضم التراث الثقافي المزمع تجديده واستيعابه , ذلك الاستيعاب الذي يفهم القاعدة أولا , وكيف أصل لها ويعرف فروعها وتطبيقاتها واستثناءاتها , كما يعرف أصول المنهج وتفاصيله , ومسوغات اعتماده , والاختلافات الواقعة بين هذا المنهج وذاك وأسباب ذلك , ويراكم كل ذلك في سيرورة اجتهادية تسمح بفهم أسباب اختيار هذه القاعدة وسياقها وملاءمتها , مما يمهد الطريق لطرح المفارقات بين مناطات التنزيل , مع استحضار البعد التأصيلي الذي يكتسبه المجدد من الخوض في جليل العلم ودقيقه . ولا نعني بهذا الكلام مصادرة الأفهام وتقنين عملية النظر , وحصرها في فئة قليلة أو معدومة أصلا بما يعني التشريع للإرهاب الفكري , إنما النقد متاح لكل من اكتملت آلة النظر عنده , وهي لا تكتمل بحال حتى يستوفي الناظر مادة الفهم وآلته . وهذا يعني أن مجرد الخوض في علم التفسير بدعوى إحياء المعاني التدبرية , واتهام المفسرين - دون تدقيق وتمعن - بالتتلمذ على المفاهيم الإسرائيلية التي غزت التفاسير لا يمكن بحال أن يصنف ضمن التجديد المومأ إليه . ذلك أن مهمة تطهير التفاسير من الإسرائيليات , والنظر التدبري إلى القرآن دون انضباط لأصول التفسير ومقدماته ليست إلا دعوى تنطلق من ثابتين : الأول : إعادة لمطلب قديم . الثاني : تمرد على القواعد دون تأسيس معرفي سليم . وعليه فالتجديد المطلوب لا يكون بهذه المعالجة التي لا تتضمن جديدا اللهم الحماسة في الطرح , والجرأة في " النقض " , إنما التجديد الذي يمكن أن نحاور معطياته ومفاهيمه وحتى انتقاداته هو ذلك الذي له إلى العلم تعلق واتصال , بحيث يناقش أصول العلم ويشرح زماتنيتها , ويبرر علميا محدودية اشتغالها ليطرح البديل الذي اكتسب بفعل النقد والتأصيل بعده العملي , وقدرته على تجاوز آفات الأصول المنتقدة . فإذا اتضح ما سقناه بصدد علم التفسير , فلا غرو أن علم الاعتقاد , أو أصول الدين كما هو الاصطلاح المتأخر هو أضيق مجالا , وأبعد عن التحليق الفكري الذي دأب بعض أساتذتنا على ارتياده دون الاحتراز من دلالات الألفاظ , واختيارات المعاني . أما إطلاق التفكير في حقل العقائد وخاصة فيما يضيق النظر فيه بدعوى تجديد علم الكلام , أو تأسيس علم جديد للعقائد فذلك مما تقل ثمرته ولا ترجى فائدته . تأملات في منهج المجددين للمتأمل أن يختار الحقل المعرفي الذي يفهم مضامينه ومعطياته , ويقف على ثقافة المجدد ومنهجه , وتقصده في طرح معالم مشروعه الذي يدعو له . فإذا أخذنا علم الأصول كنموذج ينبري الشاطبي كرائد مجدد لهذا العلم . لكن تجديده لم يكن تكرارا لما تداوله الأصوليون في مباحثهم المتنوعة , ولم يكن مجرد الهجوم الثوري على القواعد والمناهج , إنما كتابه الموافقات يعطينا فكرة وافية عن مفهوم التجديد وشروطه ومنهج بسط المفاهيم التجديدية . وللناظر في مقدمة الكتاب ودواعي التأليف , والمقدمات الاثنى عشر يجد الأرضية الصلبة التي انطلق منها الرجل في التأصيل لنظرية المقاصد ناهيك عن منهج الاستقراء الذي اعتمده في كل حيثية من حيثيات البحث . فإذا اخترنا حقل علم الحديث تستوقفك نظرات ابن حجر النقدية وكيف يثمن كسب السابقين ويضعه في إطاره العلمي , محددا موقعه في السياق التاريخي يقول في كتابه : " نزهة النظر شرح نخبة الفكر" في علم المصطلح : فإن التصانيف في اصطلاح أهل الفن قد كثرت للأئمة في القديم والحديث , فمن أول من صنف في ذلك أبو محمد الرامهرمزي ( لا حظ كلمة من أول , وليس أول من ألف ) في كتابه " المحدث الفاصل " لكنه لم يستوعب , والحاكم أبو عبد الله النيسابوري , لكنه لم يهذب ولم يرتب , وتلاه أبو نعيم الأصفهاني , فعمل على كتابه مستخرجا , وأبقى أشياء للمتعقب , ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي , فصنف في قوانين الرواية كتابا سماه : " الكفاية " وفي آدابها كتابا سماه : " الجامع لآداب الشيخ والسامع " , وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابا مفردا , فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة : كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه . ثم جاء بعدهم بعض من تأخر عن الخطيب فأخذ من هذا العلم بنصيب ......." ولعل المتأمل ينظر إلى استيعاب الرجل لجهود من سبقه , وكيف يضع إنتاجاتهم العلمية في سياقاتها التاريخية , وكيف يقوم هذه التآليف بعبارات علمية منصفة , وكل ذلك يندرج ضمن الشروط اللازم توفرها في من اقتحم العلم قاصدا تقديم الجديد في موضوعاته ومنهجه . فإذا انتقلنا إلى الحقل المعرفي الإسلامي العام , مقرين بتداخل العلوم وتقاربها , تبرز شخصية ابن تيمية كعالم استوعب معطيات العلم وتاريخه, وبنيته الداخلية وعلاقة كل علم بالعلوم الأخرى, واستيعابه لمقولات الخصم وحججه وحجاجه, استطعنا أن ندرك كم تستلزمه المهمة التجديدية في أي حقل من الحقول المعرفية داخل الثقافة الإسلامية . لكن هذا الكلام لا يعني أنه ليس لأحد أن يستكنه النص الشرعي , ويتفكر فيه ويتدبر , فذلك مطلوب من كل أحد وهو يتذوق القرآن بما هو كلام الله الإلاهي الذي يخاطب الكينونة البشرية , أو هو يستعذب نصوص السنة في معانيها وأمثالها التربوية والتوجيهية الرائدة . إن هذا لا يمكن أن نصادره على الناس , وهم من يحتك مباشرة بهذه النصوص , إنما الكلام يتجه - إن صح التعبير- إلى الثقافة العالمة التي يفترض أن تكون مؤطرة بالرؤية العلمية التي تحترم المنهج والقواعد والكليات . أما الثقافة الشفوية التي تتأطر بالذوق والتعامل الفردي الجواني مع النص الشرعي فذاك مما يخرج عن مجال بحثنا ومقالنا ما دمنا نتحدث من داخل الإطار العلمي . عود على بدء لا أحب أن يفهم من كلامي أني أتوجه بالنقد واللائمة على أي من الأساتذة الكرام , ولا أريد أن يفهم أني أدعو شعبة الدراسات الإسلامية إلى مراقبة ما يكتب وينشر , إنما قصدي أن أتخذ عينة للتأمل الفكري دون أن أدخل في محاسبة النيات والأشخاص , بل حتى مضامين الكتب لم أتناولها بالنقد حتى ينصرف ذهن القارئ إلى الظاهرة أكثر من انصرافه إلى نموذج أو أثنين , ذلك أن هذه الظاهرة أخذت تطرح مجموعة من التساؤلات , بل أصبحت تستلزم طرح مفهوم العلم للنقاش , مبادؤه منطلقاته قواعده ومناهجه , وتحديد مفهوم النقد منطلقاته وآلياته وأهدافه . إنه بدون التواضع على هذه المفاهيم يصبح الحديث في المعارف والعلوم فوضى تتعذر عندها إمكانية التواصل والتثاقف . هذا بين الباحثين والأساتذة , فإذا انتقلنا إلى الطلبة والشرائح المستفيدة زادت الفوضى التي كان من المفروض أن تسهم الجامعة في حصر وتضييق مجالها في أفق القضاء عليها . ذلك أن مهمات العلم هي التقريب بين الأفهام والكسوب البشرية وذلك بالتواضع على القواعد والمناهج , فإذا صار الأمر إلى التمرد على القواعد واطراحها , وشحن الطلبة بالحماسة التي ليس من ورائها توجه علمي , صار العلم إلى عكس مطلوبه فاختلفت الأفهام أشتاتا وتفككت الروابط الثقافية , ولم يعد من الممكن بناء أي تقارب ما دام كل يبني مفاهيمه الخاصة وفقا لمنهجه الخاص الذي لا يتأصل ولا يتقعد , وإنما اجتهاد أملاه الذوق والانطباع , والجرأة المؤطرة بالحماسة المتمردة على مفاهيم السلف وقواعدهم ومناهجهم . بلال التليدي