تشهد المرحلة الراهنة تحولات ومنعطفات دقيقة، وخطيرة في نفس الوقت، أملتها طبيعة المسار الحضاري الذي تقطعه الإنسانية جمعاء بموازاة مع التقدم الكبيرالذي تعرفه المعارف والعلوم، خاصة تلك المتعلقة بالوسائل المعلوماتية من جهة، وما لحق بالنظام العالمي من تبدلات على مستوى الزعامات والقيادات، باندثار علاقات الأقطاب وتمركز السيادة والقوة في قطب الليبرالية الجديدة، التي أخذت على عاتقها تحويل مسار الأمم والشعوب في اتجاه محدد يصهر الحضارات والثقافات ويعبد الطريق، بكل الوسائل، لتحقيق المفهوم الليبرالي الامبريالي للعولمة، باعتبارها الوسيلة الجديدة لتصفية كل ما من شأنه الحفاظ على الهوية وتمكين الأمم من اكتساب شروط الممانعة المطلوبة، من جهة ثانية. لقد استطاعت سياسة العولمة الجديدة اختراق الحصون وترسيخ المفهوم الجديد للعلاقات الدولية وقتل العديد من الشعوب الرافضة لسياسة الهيمنة ومن تم تذويب وصهر كل أشكال الانتماء والاحساس بالهوية والذاتية، فأسهمت، بذلك في تحقيق نوعين من الأزمات الخطيرة التي تعاني منها الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها، والمقصود بذلك، الاستيلاب والاغتراب. وقد تمكنت من تحقيق هذه النتيجة التي نلمسها في حياة الكثير من الناس بفعل عدة عوامل، أسهم في تكوينها ضعف الأمة وتخاذلها وتواطؤ عدة قيادات سياسية مع المشروع الكبير للعولمة والتغريب، فلولا قابليتها لتبني واحتضان الاستيلاب والاغتراب ما استطاعت المنظمات الاستعمارية الجديدة تحقيق ما حققته اليوم من نتائج، كرست من تقسيم الجغرافية البشرية والاقتصادية، وجددت من استنزاف خيرات الشعوب، التي طالما جاهدت من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة والآدمية. في ظل هذه التحولات تشهد الجغرافية الإسلامية نهضة ملحوظة للثقافة الإسلامية، نهضة تعكس رغبة جيل جديد من الأمة في نفض غبار مخلفات مرحلة الغفوة التي أضعفت من فاعليتها وانتاجيتها وقدرتها على التعاطي مع تطورات الواقع ومستجداته بالشكل الذي يجعلها دائما قادرة على ممارسة وظيفتها في الشهود والإمكان الحضاريين، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تعرفه المجتمعات الراهنة من تقلبات وتحولات سريعة، تحتم علينا أن نكون في مستوى التفاعلات الحضارية الراهنة، بل وفي مستوى الإسهام في صناعة أحداث التاريخ ومنجزاته، بل وصنع القرارات الدولية المطلوبة. من هنا حديثنا عن الثقافة الإسلامية وأثرها في تشكيل الحياة الإسلامية المطلوبة، ذلك أنه حينما تفقد الأمة الإسلامية مقومات هذه الثقافة، تتعرض لكثير من المحن الحضارية وتتلاشي فيها كل القدرات على الإبداع والإنتاج المطلوبين على كافة المستويات، بل وتتعرض للجمود الفكري والثقافي والقحولة النفسية، من جراء ما يحدث في نفسية المسلم من صراع ينتج باستمرار من جراء تدافع الأصالة والاستيلاب، وما يلحق به من معاناة من جراء ما يحس به من ازدواجية في شخصيته الحضارية، التي تحاول التوفيق بين هويته الأصيلة ومتطلبات الحياة المعاصرة التي تتحكم في رسم تفاصيلها السياسية الدولية. إن السؤال الذي يمكن طرحه هنا، ونحن نتداول واقع الصحوة، هو: هل فعلا نعيش الثقافة الإسلامية الأصيلة؟ وهل باستطاعة المسلم المعاصر التغلب على المعيقات والعقبات، حتى احل ثقافته الإسلامية محل الثقافة التغريبية؟ بل وإلى أي حد يمكننا الحديث عن ثقافة إسلامية أصيلة معاصرة قادرة على تبني خيار المواجهة والممانعة من جهة، وخيار الشهود الحضاري والامكان العمراني من جهة أخرى، خاصة والأمة الإسلامية أمة مكلفة ، شرعا، بتحقيق الخيرية والشهود على الناس كافة؟. إن الحديث عن الثقافة الإسلامية الأصيلة حديث، بالأساس عن الثقافة التي صاغها الإسلام، قرآنا وسنة، وذلك لما يتميزبه، عقيدة وشريعة، من مميزات وخصائص، تجعله قادرا على صياغة وتشكيل حياة المسلم على كافة المستويات، ولا أدل على ذلك ما تعكسه حياة المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، الشيء الذي يجعلنا نقول بأن المفهوم الحقيقي للثقافة الأصيلة لا يتحدد إلا من خلال الرؤية العامة لمنهجية الإسلام في بناءالإنسان والمجتمع معا، بناء يستطيع من خلاله الإنسان امتلاك الأدوات والوسائل المطلوبة لتسخير مكونات الكون من أجل بناء المجتمع الذي يتمثل أفراده مقاصد الشريعة الربانية والقيادة، كان خير مثال على قدرة الإسلام على بناء حياة الإنسان المادية والمعنوية، وتقديم سلوكه وترشيده إلى المسار الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه في حياته الخاصة والعامة. وتقويم سلوكه وترشيده إلى المسار الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه في حياته الخاصة والعامة. إن حديثنا عن الثقافة التي بصرت الناس بحقيقة الرسالة الإسلامية ومقاصدها، وكونت لديهم القناعة الامة بأحقية الأمة الإسلامية في قيادة الناس كافة، في عصر التيه والاستبداد والفساد الحضاري، قيادة تمكن الناس كافة، من العودة إلى الفطرة السياسية التي فطرهم الله تعالى عليها أول مرة، ومن ثم التخلص من كل ما يشدهم إلى عبادة الأوثان والأهواء، ويقربهم من فضاء الفهم العميق لوظيفتهم في الحياة، ومقاصد خلقهم وسبل تحقيق ما هيتهم كأشرف مخلوقات الله جل جلاله، ومن ثم معرفة سبل تحقيق وأداء أمانة الاستخلاف في الأرض وعمارتها العمارة الربانية التي تحفظ آدمية الإنسان وكرامته وتميزه عن باقي المخلوقات الأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار ما للعلاقة الوطيدة بين العقيدة والعمل الصالح من أثر، في تحقيق هذه المهمة التكليفية، وإبراز المفهوم الصحيح للمسؤولية التي تعتبر إحدى مكونات الشخصية المسلمة. من هنا تبين العلاقة الموجودة بين الإسلام، عقيدة وشريعة، وبين الثقافة الإسلامية، حيث تستمد هذه الأخيرة مقوماتها الأساسية من الإسلام نفسه، ومن السلوك النبوي المتميز، الشيء الذي يبين كذلك سمة العالمية التي تتميز بها الثقافة الإسلامية خطاب الله عز وجلاله إلى الناس كافة، مما يعطي لثقافة الإسلامي تميزها عن باقي الأنماط الثقافية الأخرى التي تخص أجناس محددة وأزمنة محددة بل وجغرافيات محددة...ولعل في إلهية الشريعة الإسلامية، ما يجعل من الثقافة الإسلامية نفسها ربانية المصدر والمنهج والغاية، متي خول لها القوة على صهر كل الثقافات الإنسانية الوضعية وجعلها ثقافية واحدة، الكل فيها سواسية إلا بالتقوى( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالفهم العميق لمفهوم الثقافة الإسلامية لا يتضح بالشكل المطلوب، إلا إذا نظرنا إليه من خلال الأهداف العامة للإسلام، عقيدة وشريعة، والتي يمكن تلخيصها وتجميعها في سعى الشريعة الإسلامية الحقة إلى تحقيق اعداد الإنسان وتربيته وتهيئته لتحقيق وتمثل المعنى الصحيح لمفهوم الخلافة والاستخلاف في الأرض، حيث تتضح مقاصد هذه الخلافة في عمارة الأرض بالوسائل التي أوضحها وبينها الشرع القويم، لتكون معينا على التفكر في خلق الله تعالى كمدخل لمعرفة حقيقة الوجود ومقاصده، والتي تجمعها الآية الكريمة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (وربك فكبر). إلى جانب ماسبق تستمد الثقافة الإسلامية الأصيلة مقوماتها على مستوى السلوك، من المنهج الإسلامي العام الذي حدد لتزكية النفس وتربية الذات، وتقويم السلوك والنيات، كلما أصابهما الانحراف والزيغ، ذلك أن الإسلام شرع لبناء الأخلاق في تفاصيلها، فاستوعب بذلك حياة الإنسان، وقدم نموذجا كاملا لحياة سلوكه، على مستوى التفكير والتعبير والتدبير، لم تعرفها الفلسفات الإنسانية قط، ولن تعرفها، لأنها حياة خلق منهجها الله جل جلاله وبين تفاصيلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وتمثلها الحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فكانت بذلك مستجيبة لمقتضيات الفطرة السليمة والمتوائمة قال تعالى:( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). وإذا كان الفهم العميق للمفهوم الصحيح للثقافة الإسلامية لا يتجلى، كما أسلفنا، إلامن خلال الفهم العميق للمفهوم الصحيح للثقافة الإسلامية لا يتجلى، كما أسلفنا، إلا من خلال الفهم العميق للإسلام، جملة وتفصيلا، فإلى أي حد نستطيع تمثل هذا الفهم، في زمن نعيش فيه على وتيرة الغلبة للثقافة الغربية، بالرغم من جهادنا ضد كل أشكالها من جهة، وسعينا بكل ما نملك من قوة نفسية ومادية، إلى تمثل قيم الإسلام وتعاليمه من جهة ثانية؟. ذلك أن قولنا بأننا أمة إسلامية يقتضي منا البرهنة، فعليا على تمثلنا للإسلام، عقيدة وشريعة، فشريعة الانتماء إلى لإسلام، مصداقية الحديث عن الثقافة الإسلامية الأصيلة، يقتضيان موافقة القول العمل، ولن يتأتى هذا إلا بتصحيح مفهومنا للإسلام وإلا فإن صحوة الجيل الجديد من هذه الأمة وتمسكه بالثقافة الإسلامية لن يوصلا إلى الغاية المطلوبة، عناية ببناء الفرد المسلم الذي يكون قادرا، بدوره، على بناء المجتمع المسلم، هذا الأخير الذي سيكون، بالضرورة، نموذجا لبناء مجتمع الإنسان، الذي سيتمثل فعلا حقيقة ومقاصد الاستخلاف وعمارة الأرض. إننا في الختام، في حاجة إلى تجديد فهمنا للمسار وتبصر العوائق وتصحيح النيات وتقويم السلوك، حتى يكون فهمنا للإسلام مؤسسا على نية الاخلاص لله جل جلالة، وإلا فإننا سنسقط فيما سقط فيه أصحاب الكتب السابقة الذين قال الله تعالى فيهم ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض...الآية) كتبه:ذ: عبد العزيز انميرات