التوبة في رمضان أفضل التقوى تعرّف التوبة بأنها الندم على ما سلف من الذنب في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاود في المستقبل. فهي تمثل أقوى ترك للذنب لأنها تقتضي عدم العودة إليه أبداً في المستقبل، إنها ترك نهائي وحاسم، يجعل التوبة بحق أعلى مراتب التقوى على الإطلاق. فالتوبة هي خير ما يتهيأ به المومن لاستقبال شهر رمضان الكريم فإذا بزغ هلاله، تطلعت النفوس إلى رحمة الله المبسوطة في أوله والمغفرة الشاملة في وسطه والعتق من النار المتاح في آخره. وكان التشمير إلى انتهاز الظروف المواتية للتطهر من المعاصي والآثام، الصغائر منها والكبائر، فالشياطين التي تزين للإنسان انتهاك المحرمات والاستمرار عليها، تكون مصفدة في شهر الصيام الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. وأبواب الجنان مفتحة في وجه التائبين والعابدين، وأبواب النيران موصدة لغلبة التقوى والصلاح على القلوب في هذا الشهر الفضيل. إن التطهر الذي يتيحه صيام رمضان بمغفرة ذنوب العبد الفارطة، كما في الحديث النبوي: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق عليه) فالصيام المكتوب وحده لا ينهض بمهمة التطهير من الذنوب والمخالفات، إلا إذا آزرته التوبة النصوح، بالإقلاع النهائي عن الكبائر المقترفة سلفاً، وعن الصغائر المرتكبة بإصرار. والاتقاء الحاصل بالصوم أهون على النفس من الإقلاع التام والدائم عن معاص استأنست بها النفس مدى طويلاً، واعتادت فعلها حتى كادت لا تقوى على مفارقتها. ومن ثم فإن أثر الامتناع عن الكبائر، يحدث تغيراً جذرياً وعميقاً في قلب التائب، يفوق التأثير الذي يحدثه في النفس امتناعها بالصيام عن مطعومات ومشروبات ومنكوحات، لأنها تعلم أن حظرها سيرفع عنها مع ارتفاع آذان المغرب، لتقبل على إرواء غليلها بعد معاناة الجوع والعطش ومقاساة ألم الامتناع طيلة اليوم. فالفرق بين الامتناع بالتوبة والامتناع بالصيام، أن الأول تقوى مستمرة، بينما الثاني تقوى محدودة ومتقطعة. فالامتناع المطلوب في صيام رمضان أدنى، لكنه متكرر بعدد أيام الشهر ليكون تمريناً تربوياً للنفس، على اكتساب القدرات اللازمة لممارسة أعلى مستويات الامتناع والتقوى، التي تشترط في صحة التوبة وقبولها. وما من ذنب من الصغائر أو الكبائر لم تشمله توبة، إلا ويبقى خارجاً عن دائرة التقوى ما دام يختفي عن السلوك لفترة معينة، ثم يعود للظهور فيه تارة أخرى. كما أنه ليس من التقوى في شيء استمراء ذنب مهما هان شأنه، والرضا به دون خوف إفساده للقلب والاستدراج به إلى كبائر مهلكة. إن حقيقة التقوى هي أن تبلغ النفس حداً أعلى من اليقظة والحذر والخشية، تجعلها ملازمة للتوبة، ليس من الذنوب الصغائر وحسب، وإنما أيضاً من أعمال صالحة، لم توقن بأنها أدتها على أحسن وجه مستطاع، بل وتتوب من كل خلل أو تقصير في القيام بأعباء الدين، سواء علمته أو جهلته. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في صلاته فيقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني". وما أكثر الأحوال والسلوكات والمألوفات والخصال التي تترسخ في النفس فتعيقها عن أداء المسؤوليات ومقاربة الكمالات وإنجاز الصالحات، ولم يعرف لها حكم في الشرع يمنعها أو يدعو إلى التطهر منها. فلا ينفع في استئصالها من الذات إلا التوبة الصادقة، التي تفصم علاقة النفس بالذنوب والصفات المذمومة، وتطهرها من رواسبها وآثارها المتمكنة في القلب. وهكذا يبدو مجال التوبة متسعاً على قدر همة الصائم ورغبته، في تطهير نفسه من كل أنواع الزلل والخلل، وحرصه على بلوغ الدرجات العلى من التقوى في شهر التقوى. عبد السلام الأحمر