ميز الله تعالى الإنسان بالعقل، وجعل عنده القدرة على التفكير، وبين له الآيات لعله يتفكر كما قال سبحانه وتعالى: ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) . ويعرف الفكر بأنه: (إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول)، ويقولون: فكّر في مشكلة: أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها. من خلال هذا التعريف ندرك التنوع الحاصل في طرائق التفكير بين الناس، الناتج عن اختلاف في قدرات إعمال العقل في المعلوم، وتنوع في بلورة صور ذهنية عن المحيط، وتفاوت في توسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل. وعلى قدر تقارب طرائق التفكير تتكون وتتبلور المدارس الفكرية، وتتحدد الهوية الفكرية للمنظمات والهيئات، ومن خلال الهوية الفكرية تبرز الثوابتُ الكبرى والمبادئُ الرئيسة والموجِّهَات الهادية لحركية فكرية تتلاقح وتتنافس داخلها الأطروحات لتخلص لإنتاج فكري تتميز به المنظمة. المتابع للحركات الإسلامية يمكن أن يرصد تأرجحا في تعاملها مع قضية الهوية الفكرية، بين الضبط والانحسار، والتسيب والانشطار. 1- الضبط والانحسار:حيث تميل بعض التنظيمات إلى تنميط طرق التفكير عند أعضائها، وتعمل بالإضافة إلى رسمها الإطار العام لمنظومتها الفكرية، على التحديد الصارم لمصادر التلقي لأعضائها، والتحديد المسبق للأجوبة الجاهزة على القضايا المطروحة، بل يصل الأمر إلى حد منع تداول بعض الكتب والتحذير من تصفح بعض المواقع بدعوى تحصين الصف وحمايته، دون الانتباه إلى ما ينتجه التركيز على الضبط من تقليص لمساحات الإبداع وانحسار للإنتاج الفكري وسيادة للتقليد، ولا الانتباه إلى أن مصادر التلقي قد تنوعت وتعددت واكتسبت من وسائل الانسياب والدخول على الناس في فضاءاتهم الخاصة والعامة ما لم يعد معه ممكنا للتنظيم أن يضبطها أو يحددها، ولا أن ينجح في عزل أعضائه عنها بدعوى التحصين أو الحماية. 2- التسيب والانشطار: حيث تميل تنظيمات أخرى، بالمقابل، إلى ترك الجانب الفكري دون تحديد المعالم الكبرى الأساسية والضرورية، لتوجيه بوصلة الإنتاج الفكري، من قبيل الرؤية الناظمة والرسالة الواضحة والتوجهات المؤطرة. مما يجعل الإنتاجات الفكرية للأعضاء، عوض أن تشكل عناصر إغناء وتنوع وإبداع، تتكامل في بناء منظومة فكرية منسجمة دائمة التطور والتجدد، عوض ذلك، تتحول إلى أفكار أو مشاريع فكرية متناثرة تفتقد للتناسق والانسجام، وربما تصل حد التناقض الذي يساهم في التباعد والتنافر، ويقلل من الفضاءات المشتركة شيئا فشيئا، حتى ينتهي الأمر بفقدان الهوية الفكرية والتصورية، ويحل محلها التشرذم والانشطار. إذ يكثر المغردون خارج السرب، ويسهل استلاب الأعضاء من طرف مشاريع أخرى أكثر جاهزية وأوفر إمكانيات، تتنافس في تأطيرهم فكريا لفائدة أطروحاتها ووفق مناهجها. والخلاصة، فبما أن الفكر هو إعمال للعقل في المعلوم من أجل الوصول إلى معرفة مجهول، فإن الهوية الفكرية ليست أحكاما قطعية ولا مقررات تنظيمية ولا مساطر قانونية، بل إن الفكر والتفكير المنتج يبقى عصيا عن الضبط والتحكم. وبالمقابل فإن الانتاج الفكري ليس تسيبا وتشرذما ولا فقدانا للمناعة الفكرية، لأن أهم ما يميز التنظيمات هي مفاهيمها الموجهة وقيمها المؤطرة وخاصة مكونها الفكري. وعلى قدر وضوح الهوية الفكرية واستيعاب الأعضاء لمرتكزاتها ومنطلقاتها تكون مؤسسات الإنتاج الفكري أقدر على تأطير التنوع والتلاقح بين الإنتاجات والإبداعات المتجددة.